مجلة المجتمع - عدد 2133

الحضارةُ الأندلسية.. عِلْمِيَتُها وعُلُومُها

* الأندلسُ وفُتُوحاتُه نفحةٌ إسلامية، بَنَتْ مجتمَعَهُ على القرآن الكريم والسُّنّة المُطَهَّرة، دَلِيلُها نَسْمَةٌ نَبَوية، تُقِيمُ حياتَه على البناء الإسلامي. كان التعليمُ عاماً للجميع، أَقْدَموا عليه نساءً ورجالاً وأطفالاً متنافسين. يقوم التدريس في مرحلته الأولى على التعليم الشرعي ثم يأتي التخصصُ. أصبح العِلْمُ وطَلَبُه شارةً، بدوافع إيمانية البناء، مَنْ حُرِمَها يغدو مهمشاً معزولاً مهملاً وربما منبوذاً، لم يكن في الأندلس أُمِّيٌّ واحد، رغم عدم وجود مدارس رسمية للدولة. ظَهَرَ أهلُه وعلماؤه في كافة الميادين المعروفة، زادوا فيها تَرْقِيَةً وتصحيحاً لأخطائها القائمة لدى الأمم قَبْلَهم، أنشأوا الجديدةَ منها، تَفَتَّقَتْ أمامَهم أنهارُه وتَفَتَّحَتْ أبوابُه الواسعة، وَلَجُوها إبداعاً وابتكاراً ونِتَاجاً مُذْهِلاً، مُلِئَتْ بها الحياةُ، كانت بحراً زاخراً، طَمَا مَوْجُه كُلَّ النواحي. إمْتَلَأَتْ الميادينُ بآلاف العلماء خِلالَ القرون الثمانية، مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وميدان، بأعلى مستوياتِها النادرةِ المِثَال.

* حديثُنا يَخُصُّ العلومَ البحتة Sciences ، لدينا فيها مِئآتُ العلماء في كُلٍّ منها، يَبْدُو أنهم ليسوا أقلَّ عدداً مِنْ أَيِّ عِلْمٍ آخَرَ، حتى الشرعية بأنواعها. كثيرٌ مِنْ أبداعاتهم الجديدة الباهرة ادَّعَاها الغربيون، بعد ما حَصَلُوا عليها، فقط غِبَّ اتصالهم بالأندلس وبقية العالم الإسلامي، مِثْلُ ادِّعاء:”الطريقةَ العلمية التجريبيةفي البحث القائم على الملاحظة والتَّجْرِبة والمُشَاهَدة، للعالم والفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون Roger Bacon (1292م)، يقال إنه جاء قرطبةَ، تَعَلَّم العربيةَ ودَرَسَ العلومَ وعاد بمخطوطات، لم يكن أكثرَ مِنْ أَحَدِ تَلَامِذَة العلومِ الإسلامية، ما كان نفسُه يَسْأَمُ يوماً مِنَ الإعلان: أَنَّ العربيةَ وعلومَها هي الطريقُ الوحيد للمعرفة الحقة[1].

* كان الأندلسُ مَقْصِداً لكُلِّ طالِبِ عِلْمٍ ومعرفة، القادمون إليه مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وصَوْب، حتى مِنَ العالم الإسلامي. أما مِنْ أوربا الغربية، كان الأندلسُ وَحْدَه أمامَهم البوابةَ الرئيسية الوحيدة للعلم والمعرفة وفَهْمِ أمورِ الحياة وكُلِّ أسباب التقدم بأنواعه، الذي لم تكن تَمْلِكُ منه شيئاً، حتى لَيُذْكَرُ أنَّ الراهبَ الفرنسي جَرْبَرْت Gerbert قِدِمَ إلى الأندلس وتَعَلَّم العربيةَ ودَرَسَ الرياضياتِ والفَلَكَ والكيمياءَ وغيرَها لمدة ثلاثِ سَنَواتٍ، حين عاد اخْتِيرَ بابا للفاتيكان باسم سِلْفِسْتَر الثاني Sylvester II، بَلَغَ مِنْ العِلْمِ مبلغاً، كان يُجْرِي تَجَارِبَ كيمياوية، يَظُنُّ عامةُ مَنْ حَوْلَه أنه ساحر[2].

* كانت الأُسَرُ الأندلسيةَ مَحَاضِنَ دراسية لأفرادها، أساتذتُها الوالدان والمربون والزائرون مِنْ أَهْلِ العلم، كُلُّهم يَحْمِلُه تَلَقِّيَاً وبَذْلاً. نَتَجَتْ ظاهرةٌ علميةٌ ملموسةٌ، أَنَّ الأُسْرَةَ تُوَرِّث أبناءَها عِلْمَهم وتَخَصُّصَهم، لدينا أُسَرٌ لأجيالٍ، يَظْهَرُ فيها علماءٌ منهم، بنو زُهْر في الطب وبنو جَحَّاف في القضاء وبنو رُشْد في الفقه، وبنو حَزْم في الفقه والأدب وبنو عطية في التفسير والحديث والفقه والأدب وغيرهم لأجيال، الأمراءُ والحُكَّامُ والمسؤولون كانوا مِنَ العلماء والفقهاء.

* الإسلامُ يَعْمَلُ على إقامة الحياة على العِلْمِ النافع ويُصَيُّره لنفع الإنسان، يَتَمَتَّعُ به كُلُّ أَحَدٍ، أبوابُه مَفْتُوحةٌ للراغبين، يُوَفِّر معرفةَ أهميتِه وضرورتِه للحياة، مستعيذا مِنْ عِلْمٍ لا ينفع.  لذلك كان الأندلسُ يستقبل كُلَّ طالبِ عِلْمٍ.  يُقَدِّم له ما يُريد. لابد أنْ يُؤْخَدَ بطبيعته ومبناه وروحيته، بدون ذلك  يتحول إلى هاوية يرتكس فيها الإنسان، كما جَرَى لحضارة اليوم، وقف المتنفذون حين نَقْلِها إليهم، لا يسمحون بمرورها إلا بتجريدها مِنْ ذلك، رغم ما قد يبقى فيها مِنْ مَنافع لم يمكن إلغاؤها، بذلك أَوْصَلَتْةُ إلى دَرَكٍ لا يَخْلُو مِنْ مفاتن ومَلاعن وعواهن، أفسدت عليه منافعَها.

* هذا المجتمعُ لا يمكن أنْ يربيه إلا المنهجُ الإلهي الكريم، الذي يَتَّخِذ سيرةَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أُسوةً حسنةً، دليلاً لفهم دينَ الله تعالى، اِـتَّخَاذَهُ مرجعيةً وحيدةً، إلهيةً متميزةً فريدةً، بناءُ حياتهم ومجتمعهم عليه. منه يَستمد غيرُ المسلمين إن أرادوا، يجدونه نافعاً كما استمدوا من حضارته ومُنُجَزاته العلمية والعُمرانية. يَجِدُ كُلُّ أَحَدٍ في المنهج الفريد مايريد، للارتقاء وبناء الحياة الفاضلة، لا يحتاج لغيره لأي أمر وموضوع وميدان.

* يُراد مِنْ هذه الدراسات المقدَّمة خلال أيِّ أُسلوب، أنْ يَتَقَدِّمَ بناءُ الحياةِ الإسلامية ونوعيةِ قيامِ مجتمعاتها وفَهْمِ حقيقتِها ومُكْنَة وكُنْه مسيرتها وعُدَّة استقامتها، في كافة أحوالها: قائمةً وقاعدةً مرتفعةً ومنحدرةً غالبةً ومغلوبةً، بمعرفة هذه العوامل ومؤدياتها، تتولى ذلك بشكل علمي دقيق وموثق، يُطْلِعنا على إسبابه لنعرف ونتوجه ونصمم على الأخذ بموجباتها وإيجابياتها، كما فعل العديدُ مِنْ أعلام الأُمَّة وبَيَّنُوه أمثال: العَلَّامِة أبو بكر الطرطوشي (520هـ = 1127م)، له عدة مؤلفات منها كتاب:”سِراج الملوك“، من أنفع الكتب في بابه بأسلوبه وموضوعاته، حيث كتب ورَتّبَ، سابقاً ابن خَلدون (808هـ=1406م)، الذي أبدع وجمع وأَوْعَبَ، في موضوعات مقدمته، حتى إذا جاء قاضي الجماعة بغَرْناطَة: أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الأزرق (896هـ=1491م)، الذي وضع كتابه: “بدائع السلك في طبائع المُلْك” زاد فيه وأنجب. هكذا كانت هذه السلسة الذهبية المبدعة  بموضوعاتها الاجتماعية وفلسفتها، في عِقْدٍ وضيئ مطمئن أبيض مُشِع، كانت بدايتُه قَبْلَ هؤلاء. ثم يأتي ما قامَ به أبو الوليد الباجي، وأبو بكر بن العربي وبنو حزم وبنو رُشْد  وبنو زُهْر وبنو المَذْحِجِي، والمجاهدون والشهداء أمثال أبن رُمَيْلَة القُرْطُبي، مثلما الأمراءُ والخلفاءُ الصالحون وغيرُهم وغيرُهن جِدُّ كثير، الذين بناهم منهج الله تعالى القرآني الفريد. جعلوا الأمة الإسلامية أرقى الأمم في كل أمر قروناً عديدة، مِنْ حَوْلِهم كافةُ الأمم، لا تعرف هذه الحياةَ فهماً وعلماً وسلوكاً وتعاملاً، لم تُدْرِكْ مِنْه شيئاً، في الوقت الذي كانت الكتب بمئآت الآلاف من أنحاء العالم الإسلامي لم يكن هناك كتاب واحد من الأمم الأخرى، بل إن أوربا ما كانت تدرك أهمية العلم وقيمته بله نوعية الذي يحمل الحياةَ الكريمة الإنسانية اللائقة بالإنسان وارتقائه، الذي أراده الله تعالى، ما عرفت ذلك إلا بعد اتصالها بالعالم الإسلامي ونقلت مِنْ كتبه المخطوطات المتنوعة المليئة بالعلم مبكراً. ذلك ما صنعه منهج الله تعالى:”ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور*”(النور، 40).  

[1] The Making of Humanity, Robert Briffault, 201.

[2] تاريخ غَزَوَات العرب، رينو، 296. الحضارة الإسلامية في الأندلس*، 49- 50، 63.

الصفحة الأولى
الصفحة الثانية