مجلة المجتمع - عدد 2129
حيوية التراث الأندلسي
* التراث: لُوحِظَ أنَّ البعضَ يَستعمل كلمةَ:التراث، لشيء غَدَا تاريخاً مَوْقِعُه المتاحف، لِيُصْبِحَ تاريخاً مغموراً محجوباً مركوناً، في زاوية الذاكرة التاريخية، وإن كان جميلاً، بل منهم مَنْ اعتبر الإسلامَ نوعاً مِنَ التراث. قَصَدوا إزاحته عن الحياة وتوجيهها. إذنْ: هل يحملنا هذا التَّوَجُه أن نَهْجُرَ المصطلح أو نهجر المعنى المفتعل المدخول، لكني تعلقت بالمعنى الثاني.
* مِنْ هنا كان الأوجبُ التفضيلَ المؤكدَ المُتَعَمَد أنْ نأخذه بهذا المضمون الأصيل بفهم سليم محتفظ بسعته ومضمونه وقَهْم وتَبَنِّي آفاقه الوضاءة، لا سيما باعتباره تعبيراً رائقاً عن معاني إسلامية وبعض جوانب حضارته الحية بروحييتها المتجددة المرتبطة بالمنجزات الإسلامية، والنظر إلى مبانيها، للأخذ بأسبابها الجادة، التي تقود إلى الترقِّي الفريد في كافة مناحي الحياة ومجاليها، بمقدار الأخذ بمنهجه الإلهي القرآني الفريد.
* هذا موقف محمود أمام إمكانية استعماله لشيء حي متجددٍ ممتَلِئٍ حيويةً، ممكن شَحْنِ وِعائه باعتباره ميراثاً مستمر الحياة متجدداً، يبث الحيويةَ في الأمة، باحتواء ما تبقى مِنَ النِّتاج البشري الكريم، يُثِيرُ الانتباه باعتباره مِهْمَازاً، يُحَرِّك الإنسانَ نحو المُحْتَوَى المُحْتَضِن لمعانيها ومبانيها.
* التراثُ: الإرْثُ أو الميراث، يُسْتَعَمَل للأمور المعنوية، كما يُطْلَق على النِّتاج الفكري الموروث، الذي خَلَّفة السَّلف. يَشْمِل التراثُ ما وصلنا من نِتاج المسلمين الفكري في العلوم البحتة والإنسانية بشمولها.
* موضوع التراث العلمي والتراث الانساني العام – في حضارتنا الإسلامية – مُهِمٌ جداً ويَغْدُو مسؤوليةً، يمتلك جوانبَ أساسية مِنْ هذه الحضارة الإسلامية، التي تُكَوِّن قِوام بنائه وجَمَّاع فضله. دراستُة جِدُّ ضرورية، تُطْلِعُنا على نِتاج الحضارة الإسلامية، اتسعت لهذا التراث وغيره مِنْ جوانب هذه الحضارة الشاملة. الحضارة أعَمُّ من التراث وأشمل منه.
* التراث فَصْلٌ في سِفْر الحضارة الاسلامية الميمون. سِفْرٌ محتَوٍ النشاطَ الإنساني المُشرق الوضىء، شاملٌ ممارسات حياته وعَلاقاته وأخلاقياته، باستمداده العقيدةَ الإسلامية وشريعتَها الربانية، إيماناً بمقتضياتها وتَمَثُّلاً لأوامرها وتجنباً لنواهيها وأخذاً بتعاليمها، برِقَّة ودقة وذوق وعناية، بكل شمولها الواسع، أوامرَ وواجباتٍ ومندوباتٍ وأداباً، بإقبال يبتغي رضى الله تعالى والقربَ منه سبحانه وتعالى والرغبة بجواره والفوز بجنته.
* لذلك أَطْلَقَ البعضُ على الأندلس:”الفِرْدَوْس المفقود“، أَعْتَبِرُهُ فردوساً موجوداً مُتَجَدِّداً، علاماتُه ومادته وقوته مرئيةٌ بين أيدينا.
* أَتَحَدَّثُ اليومَ عن جزئية من الفردوس الموجود، نتيجةً وثمرة باهرة، مِنَ التراث أو الميراث الأندلسي، المتعلق بما بقي مِنْ:”مسجد قرطبة الجامع“، مايَزَال يَحْمِل نَفْسَ الاسم بالإسبانية: La Mezquita Aljama، دُرَّة العِمارة الأندلسية العالمية، على مدار التاريخ حتى اليوم، رغم ما أصابه، الذي لو نال بعضُه غيرَه لَمَا أَبْقَى على شيء منه، حيث طالت نكبتُه ومحنتُه والتشويهُ والاعتداءُ على كُلِّ حقوقه، شَمِلَ كُلَّ ما فيه مِنْ حجارته وزخرفته وألوانه ومواقعه. لكنه رغم كُلِّ ذلك مايزال يحتفظ ويحتضن ويمتلئ بالكثير مِنْ بهائه المُتَمَيِّزِ، يدعو للإعجاب والجاذبية والتأمُّل، مع مرور القرون على بَدءِ إنشائه، الذي قامَ به الأميرُ عبدالرحمن الداخل سنةَ 168هـ (784م). استمرت تَوْسِعاتُه نحو قرنين، لكأنه أُقِيمَ بيد نَفْس المهندس المسلم، عِلْماً أنَّه غيرُ معروفٍ اسمَ أَحَدِ المهندسين. يُشرف على ذلك العلماءُ والأمراء والخلفاء، أَلْبَسُوه مما ألبسوه مجموعةً مِنَ التيجان والأوسِمة، غَدَا غُرَّة ودُرَّة ومَبَرَّة بين المساجد، لا في قُرْطُبة التي احتوته – مثلما أحتوت آلاف المساجد – لا في الأندلس فحَسْب، بل في العالم الإسلامي كُلِّه قاطِبَةً. قال فيه أميرُ الجغرافيين المسلمين العالميين: “الشريف الإدريسي“، الأندلسي ساكن سبتة Ceuta صاحب كتاب “نُزْهَة المشتاق في اختراق الأفاق“: “يَحَارُ فيه الطَّرْفُ[العَيْن] ويَعْجَزُ عن حُسْنه الوَصفُ“.

