مع الدكتور عبدالرحمن علي الحجي لقاء ووداع
مع الدكتور عبدالرحمن علي الحجي لقاء ووداع …
على ضفاف نهر مهروت بقضاء شهربان، وفي إحدى قرى (سنسل) المحاطة بالبساتين، وقبل ثلاثة عقود من الزمن؛ كان اللقاء الأول الذي جمعني بالمؤرخ الدكتور الحجي؛ حيث سمعت أن مؤرخًا عراقيًا من أهل شهربان يتردد هنا دائما لزيارة أقربائه الذي كانت تربطني معهم علاقة أخوية ما زالت إلى اليوم.
التقينا أول مرة في بيت قريبه، فكانت بنيان البيت المتواضع وطيبة أهله ورائحة أشجار البرتقال والقداح التي تعطر المكان؛ تزيد من جمالية اللقاء المعطر أصلا بطيب وتواضع الدكتور الحجي.
كنت أنتظر هذا اللقاء بشوق، والشوق هو ذلك الإحساس المبعثر في ذاكرة الخيال، وطالما يشد الروح هذا الشوق للقاء العلماء والأدباء الكبار، فمن معين علمهم وفيض أدبهم وتواضعهم يتعلم المرء الشيء الكثير، ومن واحة تجاربهم ومدرستهم في الحياة يزداد المرء تجربة وخبرة؛ لأن الحياة تجارب، والتجارب الناجحة هي رصيد للحياة.
كان اللقاء الأول في صيف عام 1993م؛ حيث تعرفت على الدكتور، وشرفت بعد ذلك بصحبته واللقاء معه وزيارته مرات عديدة كانت آخرها في صنعاء عام 1998م.
أخبرته أنني أكملت دراستي في كلية العلوم الإسلامية وما زلت طالب علم أبحث عن آفاق المعرفة وسبل الوصول إليها، وأود معرفة تجربتكم الدراسية أولا، وتجاربكم في مسيرتكم العلمية خصوصا وما وصلتم إليه حتى أصبح اسمكم مرتبطا بتاريخ الأندلس.
وقد كان من الصعب أن يتحدث الدكتور الحجي عن نفسه فهو لا يحب الثناء ولا المدح، وذات مرة دعي إلى إلقاء محاضرة في أحد ليالي رمضان في مسجد الشيخ محمود باشا الجاف في ناحية السعدية، وكان إمام المسجد أخي الشيخ عبد الكريم جمعة -رحمه الله-، فلما انتهت الصلاة طلب منه أن يقدمه بدون ألقاب وثناء.
وكانت محاضرة قيمة شدت الحضور، ونالت استحسانهم، ومما لفت الانتباه إليها تحضيره للمحاضرة، فقد كان يتكلم في ضوء رؤوس الأقلام والنقاط المحددة، وهو ما أخبرنا به لاحقا من أن المتحدث لا بد له أن يحضر ويحترم عقول المتلقين مهما بلغ من العلم والتخصص.
وعن تجربته ومسيرته العلمية قال: إنه ولد في مركز مدينة شهربان -قضاء المقدادية حاليًا- في ثلاثينات القرن الماضي، وبدأ دراسته الأولى بالكتاتيب، وتعلم قراءة القرآن على يد معلمة في الكتاتيب تدعى (حليمة -رحمها الله-)، ثم أكمل دراسته الابتدائية في شهربان، ثم حصل على دبلوم المعلمين في خمسينات القرن الماضي وعُين معلما.
كانت النفس تنازعه إلى إكمال دراسته الجامعية في تخصص التاريخ، فنفوس أهل المعالي تواقة إلى منهل العلوم وتعدد مشاربها، فكان يسافر في كل عام إلى القاهرة لأداء الاختبار في قسم التاريخ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة التي انتسب إليها، ثم حصل فيها على البكالوريوس بداية ستينات القرن الماضي.
وبعد حصوله على الشهادة الجامعية بدأت لحظات إكمال الحلم بالسفر إلى مدريد بالقرب من الأندلس التي تغلغل حب تاريخها فسكن شغاف القلب، فكان ما أراد حيث ارتحل إلى مدريد ليسجل الماجستير في جامعتها، التي لم يلبث فيها إلا عاما حتى غادرها متوجها إلى جامعة كمبريدج بلندن ليمضي ست سنوات دراسة وبحثا وكتابة عن الأندلس.
وهنا نتوقف قليلا مع بحثه في شهادة الماجستير، التي نالها في سنة تحضيرية بالماجستير دون كتابة رسالة؛ لأن نظام الدراسة يعطي للمشرف الحق في تزكية الطالب إذا رآه مجدا ومجتهدا في الانتقال بعد عام من تسجيله إلى مرحلة الدكتوراه.
قضى الحجي خمسة أعوام في كتابة الدكتوراه منها عام ونصف في جمع وقراءة المادة التي كانت بعنوان “العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وأروبا الغربية”، بإشراف الدكتور جون، فحصل على الدكتوراه عام 1966م.
وعاد إلى العراق ليلتحق بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة بغداد 1966م، ثم ينتقل إلى جامعة الرياض عام 1967م-1970م، ثم جامعة بغداد 1970م- 1977م، ثم جامعة الإمارات 1977م-1985م، فجامعة الكويت 1985م، ثم جامعة صنعاء وجامعة الإيمان باليمن 1997م – 1999م، وبعدها غادر إلى مدريد حيث استقر فيها، وكان متنقلا بين العواصم لحضور المؤتمرات والندوات وإلقاء المحاضرات حتى وفاته -رحمه الله- في مدريد في الخامس من جمادى الآخرة 1442ه، الموافق 18 يناير 2021م.
ترك الدكتور الحجي عشرات المؤلفات ما بين مؤلف ومحقق وبحث، فضلا عن برامج متلفزة وندوات ومحاضرات، ومن أبرز مؤلفاته: تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، أندلسيات، السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها، الحضارة الإسلامية في الأندلس، تاريخنا من يكتبه، أضواء على الحضارة والتراث، المقتبس في أخبار بلد الأندلس لابن حيان القرطبي (تحقيق ودراسة)، وغيرها.
تأثر الدكتور الحجي بأساتذته وخاصة في المرحلة الابتدائية وذكر لي منهم الأستاذ: علي حبيب، والأستاذ سعيد علوان، والأستاذ خطاب عمران، الذي سمع منه بعض الشعر وما زال يحفظه إلى الآن لمِا ترك من أثر عليه في مسيرته العلمية، وهو:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرة زلجا
ولا يغرنك صفو أنت شاربه فربما كان بالتكدير ممتزجا
وهذا يشير بوضوح إلى أثر المعلم وحُسن صناعته في الدرس، وأهمية الغرس في بداية التحصيل والطلب.
كان حلم الحجي تأسيس مجلة تهتم بالتاريخ الإسلامي ومنهجية كتابته، وسعى إلى ذلك حتى وصلت مراحل مهمة وسماها “مجلة الجذور”، لكن الجذور التي غرست لم يسع الوقت لتخرج بذرتها الأولى، فرحل صاحب الجذور على أمل مَن سيأتي بعده ويهتم بها.
لعل من أبرز ما سمعته من الدكتور الحجي وصيته وتعليمه لطلبته والباحثين عموما بالاهتمام بالجانب العلمي، والسعي له، وأن أهم ما يتميز به الباحث الناجح، هو: الصبر، وطول النفس، والطموح، والهمة العالية، والأمانة، فهذه السمات كفيلة بتحقيق الهدف الذي خطط له جيدا من قبل.
سعى الدكتور الحجي إلى تأسيس منهجية البحث في التاريخ الإسلامي، ومحاولة صياغة هذا المنهج بحلة جديدة، فأثمر ذلك السعي عشرات المؤلفات منها نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، ومحاولة تنقيته مما علق به من أخبار زائفة تشوه صورة الإسلام الناصعة، ومسيرة المسلمين المباركة التي امتدت إلى أرجاء المعمورة تحمل لواء العدل والرحمة والهدى، فضلا عن الرد على شبهات المستشرقون ومن تأثر بهم من المسلمين.
وفي هذا السياق يقول الدكتور عبد الرحمن الحجي: “إن أي فصل للتاريخ الإسلامي عن الإسلام ودراسته تفاريق وأجزاء، وعلى شكل أشلاء لكائن ميت وغدا في ذمة التاريخ، إن مثل هذا العمل يعتبر جهلا بالإسلام وتاريخه وهو إساءة بالغة إليهما، وليس مهما بعد ذلك أن يكون مقصودا أو غير مقصود”[1].
ويشير بوضوح إلى أهمية معرفة منابع دراسة التاريخ الإسلامي، والاعتماد على العلماء والمؤرخين والباحثين الثقات المسلمين ومن المنصفين من غيرهم، والانتباه إلى المنابع غير الصافية التي كتبتها أيد غير أمينة نتيجة الأهواء والأخطاء في فهم هذا التاريخ ومن بينهم المستشرقين، وإن كان في جهود بعضهم نفع بغض النظر عن الدوافع، فالتاريخ الإسلامي ليس تاريخ نتاج وأحداث وظواهر اجتماعية وأوضاع سياسية ودول سادت فحسب؛ بل وأيضا وقبل ذلك هو تاريخ عقيدة شاملة لها سماتها وخصائصها ومقوماتها المميزة[2].
ومما ينبغي الوقوف عنده معرفة وسائل الأعداء في تشويه التاريخ الإسلامي من خلال التجهيل والتشكيك والتجزئة والإهمال والتشويه، ونشر الافتراءات والأكاذيب كالتفسير المادي والقومي للتاريخ، ودوافع الغنيمة والمال في الفتوحات الإسلامية، وشبهة انتشار الإسلام بالسيف[3].
لم يقف الدكتور الحجي موقف الناقد فحسب بل عمل طوال تدريسه على إيجاد خطوات عملية وعلمية مدروسة لنهضة شاملة تقوم على أساس أن كل أمة تحترم نفسها وعقيدتها، ولها شخصيتها ولا تهمل تاريخها، فكانت جملة من المقترحات من أهمها: العمل على تأسيس مشروع تقوم به مؤسسات من الدول الإسلامية وتقوم عليه لجنة علمية متخصصة تملك العقلية والروح الإسلامية، يمنح القائمون عليها التفرغ الكلي أو الجزئي للقيام بهذا العمل الكبير، وتدريس التاريخ الإسلامي في المدارس والكليات على هذا الأساس بعد إعداد المدرسين المتخصصين الذين يهتمون بالجوانب الفكرية والاجتماعية في عرض مادة التاريخ، ورد الشبهات.
رحل الحجي بعد نصف قرن من الزمن قضاها مع التاريخ الإسلامي درسا وكتابة وقراءة وتأليفا وبحثا، فكانت رحلة مع هموم أمته التي آلمه ما آلت إليه أوضاعها، رحلة مع عبق التاريخ عموما والأندلسي خصوصا، حتى لا أبالغ إذا قلت إن التاريخ الأندلسي إذا ذُكر، ذُكر معه الدكتور عبد الرحمن الحجي.
كان خطيبا مفوها، وصاحب صوت جهوري، وهمة عالية، يتنقل بين القرى معلما وموجها وخطيبا وداعية، وينظم الشعر أحيانا.
ومن مواقفه التي حدثني عنها قال: عمل قسم التاريخ في كلية الآداب بالإمارات العربية رحلة لطلاب القسم، وكانت رحلة علمية إلى مدينة الأندلس، ولما دخلنا أحد مساجدها التي تحول إلى كنيسة، ما كان مني إلا أن رفعت الأذان بصوتي، ولم أبال بما سيحدث، فالنفس جاشت بمشاعر الفتح الإسلامي للأندلس، فكان ما كان والحمد لله.
رحل الحجي بعد طول لقاء فكان الوداع، رحل الإنسان المربي والمؤرخ الغيور على تاريخ أمته وبقيت آثاره تحكي لنا قصة رجل ولد في شهربان وتوفي في مدريد
وكن رجلا إن أتوا بعده يقولون مرَّ وهذا الأثر
رحم الله أبا بلال الأستاذ والمعلم والمؤرخ والمربي، ولا أقول إلا ما كان يوصي به وهو الدعاء.
اللهم إن ذنوب الدكتور عبد الرحمن الحجي لا تضرك وعفوك عنه لا ينقصك، فاغفر له ما لا يضرك وامنحه ما لا ينقصك، وأنزل عليه شآبيب رحمتك آناء الليل وأطراف النهار حتى يلقاك آمنا مطمئنا وجميع أساتذتنا وأموات المسلمين.
[1] ينظر: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي ص10.
[2] ينظر: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي ص13.
[3] ينظر: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي ص27 وما بعدها.
رابط المقال: https://www.facebook.com/story.php?story_fbid=2634856883475538&id=100064929901074&mibextid=Nif5oz&rdid=wdTx408XVVepsD4d#