مجلة الكويت - عدد 322

سجين غدا علامة

·       ما أن فكرتُ في هذا الموضوع، أكتبُه مساهمةً جَدِيدةً، كانت الساعة السادسة من فجر يوم الثلاثاء 8/12/2009م، حتى قفز إلى الخاطر بيتٌ أو أبياتٌ، قَفّيْتُ عليها بهذه القصيدة للمناسبة:

·       سَفَـــرَ الوَجْــهُ لها مُنْـتَصِـرا    جَــارِيــاً في أَرْضِهــا مُعْتَبِــرا

     كيف يَرْنُو بِتَـبـاريحِ الجَــوَى    مَنْظَرٌ يُعْــجِبُــهُ كُــلُّ الــوَرَى  

     يَتَهـــادَى هائمـــاً في مَشْيِـــهِ    نحو ذَيّاكَ الهَوَى حيث يُــرَى

     أَيُّ ظُلْـــمٍ نالَـــهُ في عِلْــمِـــهِ    زادُهُ كان عظـيمـاً مُثْـــمِــــرا

     فقَضَى عشـرينَ حَوْلاً سَاهِراً    قـــادَهُ نحــو أعلاهـــــا ذُرَى   

     يُصْبِحُ في كُلِّ يومٍ جُرْعَـــةً     والأماسي رَكْــوَةً لَمَّــا انْبَرَى

     وعلى أعتابِهــا هامَ احْتــوَى     مِنْ بُنيَّــاتِ العُـلُـومِ ازْدَهَـــرا

                        ***************

*      تَمرُّ بالإنسان حوادثُ قد يَحْسَبُها- هو أو غيرُه- من النَّوازِل والمِحَنِ، لكنها قد تكون من المِنَحِ له ولآخرين، إذ يسوقها الله تعالى له ولمن حوله: “وعسى أن تَكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسىى أن تُحِبّوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يَعلم وأنتم لا تَعلمونَ *” [البقرة(2/مدنية)، 216]، حتى وإن عانَى منها ما يجعله يَحْزَنُ لها، بما جَلَبَتْه من   متاعب. قد لا يَحْدُثُ ذلك لشيءٍ اسْتَحَقّه عليه أو بما ارتكبه أوجَناه، بل بظلمٍ وَقَعَ عليه، رغم ما كان يريد تقديمَه من خدمةٍ يَفْرَحُ ويُفْرِحُ بها.

*      ذلك ما جَرَى كلياً لأُمَيّة بن عبدالعزيز الدَّانِي الأندلسي، المُكنَّى: أبوالصَّلْت (529هـ = 1135م). عالِمٌ أندلسيٌّ واسعُ المعرفة متعددُ الاهتمامات غزيرُ النِّتاج، واحد من أولئك الذين بَرَعُوا في العلوم البَحْتَة (Sciences Pure) والعلوم الإنسانية (Human Sciences). وصف ب:” العلامة الفيلسوف الطبيب الشاعر المُجوِّد أمية”. كانوا يلقبونه منذ وقت مبكر: ” الحكيم  الأديب “. دَيْدَنُ الحياةِ العلمية الأندلسية المتسعة الغامرة المعهودة، المليئة بالموسوعيين المُسْتَبْحِرينَ.

*      ذلك هو أبو الصَّلْت أُمَيّة بن عبدالعزيز بن أبي الصلت (529هـ = 1135م)، من مدينة إشبيلية (Sevilla, Sevile)، الذي وُصِفَ ب: العلامة الفيلسوف الطبيب الشاعر المجود في شعره رقة وجودة. صاحب الكتب(المؤلفات) … كان رأساً في الطب والنجوم (الفلك)والوقت والموسيقى(الألحان)، عَجَباً في لَعِب الشطرنج”. له العديد من المؤلفات في علوم عدة، لا سيما في الأدب والعلوم البحتة. منها:” الحديقة” في الأدب على نسق: “يتيمة الدهر” للثعالبي في فضلاء عصره و ” رسالةالعمل بالاسطرلاب” و” الوجيز “في علم الهيئة و” الأدوية المفردة” و “تقويم الذهن” في علم المنطق و”الرسالة المصرية“. “كان واحدَ زمانه وأفضلَ أوانه متبحراً في العلم مُنْشِئاً للمنثور والمنظوم له الباع الطويل في الأصول والتصانيف الحَسَنَة”.

*      إلى جانب ذلك كان شاعراً، ربما كان يرتجله، وله ديوان شعر كبير. برع في فنون كثيرة منه، لاسيما الوصف والحكمة والعِبْرة. من ذلك قوله:

*      تَجري الأمورُ على حكم القضاء وفي     طَيِّ الحوادث محبوبٌ ومكروهُ

*      فربما سَرَّني ما بِتُّ أحذرهُ                 وربما ساءني ما بِتُّ أرجوهُ

*      *لكن هذا العالم وقع له ما لم يكن في حسبان أحد ولا هو نفسه، من حيث كان يريد القيام بعمل علمي فذ، تنفيذاً لنظريات علمية استخدمها بنجاح باهر، لولا الوقوع في خطأ غير مقصود ولا محسوب ولا متوقع. كان ممكن أن يقود إلى الانتفاع في تجنب مثله أو عدم تكراره، يرفع من قيمة نظريته العلمية المتقدمة السابقة للزمن، مجنبة إياه للمحن تبعده عن كل مرتهن. هنا تكمن الغرابة المُغْرِبة والمفاجأة المحزنة والحالة المؤسفة. فما هي يا تُرى؟ ذلك ما سوف تَرى.

* ذلك أنه حين قدم إلى الاسكندرية والتقى بأميرها، الذي أخبره أنه قد غرقت سفينة في بحرها تحمل النحاس. وعندما درس الأمر تبين له أنه يستطيع إخراجها، فطلب ما يحتاجة من العدة. جُهز له ما يريد مما يلزم لهذا العمل كما أُحضر مهرة الغطاسين الذين شدوها بالحبال الإبريسم، وبدأ رفعها من قاع البحر حتى وصلت إلى أعلى فوق سطح الماء، ففرحوا بذلك لنجاح هذه العملية العلمية الناجحة، لكن حدث أن الحبال إنقطعت فجأة وعادت السفينة إلى مكانها من قاع البحر. غضب الأمير عليه قبل أن يحاوله ثانية مستفيداً من التجربة لتجنب هذا السبب، ربما للنفقات التي تكلفته العملية الناجحة غير التامة. سجنه في خزانة كتب غنية بالأمهات لمدة نحو عشرين سنة قضاها في الدراسة، لعله قرأها جميعاً مستوعباً ما فيها فخرج أو تخرج منها إماماً كبيراً ورأساً في علوم عدة متنوعة. ثم عندما خرج من سجنه توجه إلى الشمال الإفريقي عائداً إلى بلده الأندلسي، عاكفاً على التأليف في فنون عدة من العلوم البحتة وغيرها، مخلفاً ثروة علمية كبيرة ضاع أكثرها. هكذا كان ذلك عليه نعمة أتت بفوائد جمة ثم ضاعت كما ضاعت تلك السفينة، تركت لنا عبرة ورب ضارة نافعة اقتضت تضحية كبيرة منه. 

الصفحة الأولى
الصفحة الثانية