مجلة تراث - عدد 95
وَهَنْدَسَ الفقيه مساجدَها
البناء الإسلامي للحياة الإنسانية والمجتمع والفرد رائع وأصيل، يُطْلِقُ صاحبَه في الحياة يُقيمها ويُعليها ويصونها، مُلْكاً أميناً مصوناً، ينطلق بحثاً عن طرق مبتدَعة للارتقاء والإعلاء والارتفاع بها، بدافع الأجر والقرب من الله تعالى.
وإن مبناه بمنهج الله تعالى يوفر تلك المعاني ويقيمها ويعمقها ويفتح أبوابها جديدة، يقودها إلى الإبداع المتميز إفراداً، والمتجدد أعداداً وإعداداً، فتمتلئ الحياة بالخير والفضل والأمن. يكون ذلك بمقدار الأخذ بمنهج القرآن الرباني. وكل خِبْرةٍ لها الاستعدادُ والإمداد والاجتهاد. وكذلك كانت الخبرةُ تتحصل بسرعة، مثالاً بأسلوب الجلالِ والجمال.
ومن هنا ينطلق المسلم في الحياة، فأينما تضعه، مختاراً واعتباراً، تجده يُجيد ويُحْكِم دوره ويُقَدِّم خيره، بشكل فيه المبادرة والابتداء وحسن الاختيار، إبداعاً وإرواءً وسَبْقاً. حتى إن فعله يبقى مثالاً يُحتذى، ورسْماً يُرْتَضى، وأسلوباً هادياً.
ولذا كان الإبداع في كل الميادين بشكلِ سَبْقٍ مثيرٍ للإعجاب والتعجب. والسبقُ لا في الزمن فحسب، بل في النوع. فبذلك قَدَّم المسلمون أعاجيبَ الإبداعات في كافة الميادين، مما يُعتبر مثالاً وأناقةً وجمالاً.
فهم إذن أسسوا أموراً عاشت الحضارات الأخرى عليها قروناً طوالاً، وما زالت أصولها لكثير من مقوماتها التقنية، تمتد وتَشْتد وتَتَّقِد. ولبعضها كان العجزُ والتخلفُ والقعودُ عن مضاهاتها ولو بعد قرون، رغم المثابرة والسعي والمصابرة.
فغدت الحضارة الإسلامية ذاتَ أصولٍ راسخةٍ مَدَّت العالمَ بالأسس الحضارية الإنسانية، بذوق ولباقة ولياقة وفن ورقة ودقة، وبإحساس الجمال والمشاعر والحنان. وذاك واضحٌ ملموس شامخ في كافة جوانب الحياة ومنجزاتها وميادينها. فكان ذلك أكبر من التعويض عن العمر الطويل، والذي لا يُدْرَك ما يعطيه هذا المنهج بقوته وبنيته وربانيته. حتى مبانيهم امتازت بالمعنى الجمالي المعبّر المُفْصِح عن مبناها ومعناها، واتسمت بالقوة والبساطة وبدون أدنى تعقيدٍ، في كافة أمورها ومحتوياتها وصورها، حتى مادتها عُجنت من أسهل وأوفر وأيسر المواد المتوفرة الصافية. اعتمدت على المعنى دون الحجم والضخامة والمظهر، كأنه استنباتٌ واستمدادُ النداوة والنقاوة، واستجوابٌ واستجلاب لمعاني الإسلام المتسمة بالعقيدة القلبية السمحة الصادقة والإيمان القوي النبيل الأصيل، مشاعرَ وأحاسيسَ ووجدان.
ذلك كلُّه واضح جلي بهي، فيما بقي من عماراتهم ومناراتهم ومبانيهم، لاسيما في الأندلس، الأمر الذي جعل إسبانيا منذ نحو ربع قرن أو يزيد -وحتى الآن- أول بلد سياحي في العالم، بسبب الآثار الإسلامية فيه، لاسيما المتبقي منها، متأبياً على أيدي العيث والعبث والتخريب المتعدي، في مباني قرطبة Cordoba وإشبيلية Seville وغَرناطة Granada وغيرها.
وحكاية اليوم عن جزئيةٍ في مسجد قرطبة الجامع، في وسط المدينة الأبية الثكلى الصبور، التي تنقلك وأنت تزورها أو تَذْرَعُ دُرُوَبها، تتفقد مبانيها كأنها أيامها الأولى، ولولا حِزْمةٌ من جمالها الذاهب أو المهاجر أو المتناثر.
ومسجدُها الجامع هذا – الذي لم يكن في بلاد الإسلام مثلُه – وأنت تزوره لولا أنه أمامك محتفظاً شامخاً ببعض شأنه متماسكاً ببقية من فنه، يَلْثِم معمارُه شيئاً من جماله، لا تكاد تصدق وجودَ هذا الفن المتفرد النادر أو العديم المثال. وهو يُعلن عن ذلك ويناديك، سلطاناً وإيماناً وحناناً، عَلَّك تصافحه أو تنافحه وتغازله، ولو أمكن يحادثك وتحادثه.
وهو كذلك حتى هذه اللحظة وقد احتمل مواجع التشويه والتحريف والتصريف، فكيف وقد مضى على بنائه ما يعانق ثلاثة عشر قرناً (منذ 170هـ=786م). تزوره مذهولاً مرةً ومأخوذاً أخرى ومحزوناً بعدها. لعل الله تعالى يرزقك زيارته ومحاورته ومداورته، وقد تفنن فيه الواصفون مؤرخون وجغرافيون وزائرون وشعراء وأدباء وعلماء، أقوالاً وأنغاماً وأشجاناً. وقد استحق وصف أحدهم “يَحارُ فيه الطَّرْفُ ويَعْجِزُ عن حسنه الوصفُ ” فليس في مساجد المسلمين مثلُه تنميقاً وطولاً وعرضاً”.
فأي نوع من المهندسين المعمارين أقاموا بناءه، تتداوله أيديهم على مدى قرون وكأنها عملٌ واحد بيد نفسِ المهندس.
مضت عادةُ الفاتحين المسلمين أن يُنْشِئوا، أولَ ما ينشئون -بعد فتح أية مدينة- مسجدَها. يقيمونه ابتداءً بناءً في أرض بِكْر –ما أمكن ذلك- لا يتحيفون على أحد فيه، وهنالك في الأندلس يضعون رسْمه وتصميمه ويسددون قبلته.
وكان عدد من التابعين دخلوا الأندلس لدى أول الفتح، كان منهم مهندس المساجد الأندلسية الفقيه المجاهد الإداري: حَنَش بن عبد الله الصَّنعاني (من صنعاء الشام) دخلها سنة 93هـ (712 م) مجاهداً مع موسى بن نصير. وهو الذي تولى الإشراف على تأسيس عدة مساجد في مدنها: جامع مدينة البيرة Elvira أشرف عليه وجدّد قبلته، وأسس المسجد الجامع بسرقسطة Zaragoza ووضع محرابه، ومسجد قرطبة الجامع الأول، كان على رأس مجموعة أشرفت على بنائه وتأسيسه، لاسيما تحديد وتعديل وتقويم قبلته وتركيزها بيده وتوجيه محرابه، ثم كان البناء الحالي على وضعه ووجهته ومحرابه، الذي ابتدأه الأمير عبد الرحمن الداخل قبل سنة 170هـ. وتوالت الزيادات خلال أكثر من قرنين، لكنها كانت كلها كأنها بيد مهندس واحد.
ويُذكر أن كنيسة نوتردام الباريسية، التي أُنشئت بعد ذلك بقرون، استُعين في بنائها بمهندسين معماريين أندلسيين، ورغم ذك لا مقارنة بينهما، ولكن هيهات أين الثرى من الثريا. ولما أريد لهذه الكنيسة أن يكون عُلو سقفها أعلى أو مثل مسجد قرطبة البالغ نحو تسعة أمتار على عمود قطره 25 سم كان قطر العمود في تلك الكنيسة أضعافاً مضاعفة.
وحكاية اليوم تتعلق بهذا الفقيه المهندس المجاهد. إنه بينما الجيش الفاتح وصل شمالي إسبانيا بقيادة موسي وطارق بعد فتح مدينة سرقسطة (شمال شرق مدريد 320 كيل)، وأراد القائد الانطلاق لما بعدها أخذ الفقيهُ حنش بعنانِ فرسه وأوقفه قائلاً له: أيها الأمير رفقاً بالناس لقد تَعِبوا ومَلُّوا وكلّوا، لسنين ويريدون الاستراحة من عَناء الجهاد الطويل فتمهلْ. فضحك موسى وقال له: أرشدك الله وكَثَّر في المسلمين مِثْلَك، وبيَّن أن لابد من الاستمرار، بل زاد موسى كذلك: “أما والله لو انقادوا لقدتهم حتى أُوقفهم على رومية (روما) ويفتحها الله على يديّ إن شاء الله”. فساروا جميعاً وسار هذا الفقيه المهندس المجاهد.
أليس في موقف كل منهما وأمثالهما من الآخرين جنداً وفقهاء وعلماء، ما يدل على هذا البناء الإنساني الذي يهنأ بكل بناء ويرفع اللواء ويحيل صحراء الحياة إلى حدائق غناء، رحمهم الله جميعاً وأثابهم خير الجزاء، وما عنده أبقى.