مجلة تراث - عدد 92

وقَبَّـل يـدَ الوزيـر

لا تجد أصالة في الحياة الإنسانية بأبعادها المتنوعة كتلك التي يصيغها الإسلام ويصبغها “صبغةَ الله ومن أحسن مِن الله صبغةَ ونحن له عابدون” (البقرة، 138). ويبقى المجتمع الإسلامي كذلك حتى في حالات الضعف والتفلت والتدحرج. فما إن تتهيأ الأجواءُ المناسبة حتى تستجيبَ للخير وتعودَ، بل وتستجيشَ بهواها نحوه، جاريةً في خَطِّه، آخِذَةً هُداه ومداه. بل إن بعضَها حتى وهي في حالات الضعف تأتي بصيغٍ كريمة.

ومهما يكن فإن هبوبَ روح وريح الإيمان، هي التي ترتقي بالإنسان وحياته وتُوَرِّثُه الثمار المتبارية، قوة وعمقاً وابتداراً. أما حين تحيا بأصالتها فهي التي لا مثيل لها، لا تَحيد ولا تتبدد أو تبيدُ بحال، مهما جرى وكان، خلال الأعوام والقرون.

وهؤلاء الآخذون بالمنهج هم أعمدة الحياة جمعاء، ترى من خلالهم مَأتى الرقي الإنساني، مأواه ومثواه. لا تُرى نماذجُه إلا في هذه الأجواء، ولا لون له إلا بهذا البناء ولا يُستطاب طعمه إلا كلما اقْْتَرَبْْتَ اليه. تَطْرَبُ له وتزداد، ويعجبكَ المشي في ركابها والحُداء لموكبها والانتماء لقافلتها.

وهذا للحياة الإسلامية ومجتمعها بل ونِتاجها، حتى في أوقات الحسرة والانحسار وترادف عوامل الاندثار، حساباتٌ رائقة وأفاعيلُ صادقة ومواقفُ ثابتة. كل ذلك لأن الأمر دينٌ والسعي عقيدة والوقوف عندها قربى وعبادة لله رب العالمين، اقتداءً برسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم. ” لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الآخِر وذكر الله كثيراً” (الأحزاب، 21).

يلوح لك ذلك بوضوح من خلال التعرف على حقائق التاريخ الإسلامي، مُتَرَوِّياًَ في النظر إليها ومحسناً قراءتها مدققا في أبعادها، قاعدةً في فهم هذا التاريخ الإسلامي والتعرف على طبيعتة وإجادة تفسيره، حسب سنن الله سبحانه وتعالى في مجرى الأمور في الكون والخلق والحياة.

انظر إلى ما جرى عَشِيّةَ استسلام وتسليم غرناطة للملكين الكاثوليكيين فرناندو الخامس (Fernando V) وزوجته ايزابيل (Isabel)، (فردناند وإزابيلا)، في الثاني من ربيع الأول سنة 897 هـ = 1492/1/2 م، بعد معاهدة من سبعة وستين بنداً، تؤكد كلها تأمين الناس على كافة حقوقهم، وتَكَرَّر توقيعُها من السلطات الكنسية والرسمية، التي ما إن تمكنت حتى بدأت بنقضها، بل وكذلك بإجبار الأندلسيين على التنصر، ومَنعوا كل ما هو إسلامي وطاردوه وأحرقوه.

وبدأوا بالعلماء الذين كان منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن يوسف المَوّاق، عالمُ غَرناطة وإمامُها وشيخها، المفتي القدوة الحجة خطيب المسجد الجامع الأعظم فيها. أحضروه إلى الكنيسة، التي حَلَّت للتَوِّ محلَّ مسجدها الجامع، وعرضوا عليه التعاون معهم والتفاهم والتنصر ترغيباً، مقابل الذهب (ذهب إبريز) والمجد والجاه، فأبى. فهددوه بالتعذيب والأذى والموت ترهيباً فامتنع، فأذاقوه شيئاً منه وأدموه، إلا أنهم رأوا أن يُطلقوه استدراجاً وإمهالاً، لعله يلين ويستكين فيستجيب، لكنهم اشترطوا عليه أن يُقَبِّل يدَ الطاغية الوزير ففعل. فلامه الناس وأنكروه عليه فسكت.

وبعد أيامٍ ظهرت له كرامة، إذ ما لبثت يد الوزير تلك أن تورمت مكان القُبلة فيها وتوجّع منها، فأمر برد الإمام الموّاق إليه وطُلب منه الدعاءَ للشفاء.

لكن مع ذلك استمرت محاولاتهم معه عن طريق الترهيب والتهديد بالقتل، وهو ما يَعْلَمُه نهايةً. وتقدم إليها محتسباً، فما وجدوا فيه مأرباً غير تنفيذ ذلك. فاستُشهد بين أو تحت أيديهم وأمام أعينهم، مشهد يأنسون به. فذهب إلى الله شهيداً أحسن في شعبان سنة 897 هـ، بعد تسليم غرناطة بنحو ستة شهور.

واستمر ذلك النهج حتى كانت محاكم التفتيش الغاشمة، لكن الإمام المواق ذهب إلى الله شهيداً مقبلاً غير مدبر قوياً ثابتاً، إيماناً واحتساباً، ليبقى مثالاً لكل حر كريم أصيل، رحمه الله تعالى وأكرمه وجزاه خير الجزاء على إبائه جهاداً واستشهاداً.

الصفحة الأولى
الصفحة الثانية

سلسلة الأندلس رسوم وصور

بحث: المورسكيون في المخطوطات والمصادر الأندلسية

ص1
ص2
ص3
ص4
ص5
ص6
ص7