مجلة تراث - عدد 87
مدينةٌ هَزَمَتْ إمبرَاطوراً
كان الفتح الإسلامي للأندلس هدية التاريخ والحياة والحضارة، لتلك الأرض ولما بعدها، التي عُرفت بالبُرْت Pyrenees، Pirineos، بين إسبانيا وفرنسا، ابتداءً مما يسمى بالأرض الكبيرة (فرنسا وما يليها) وكثير من بقية أوربا الغربية، هديةً حملت كل أفانين البِر والخير والسعادة (للدارين).
هؤلاء الذين حملوا منهج الله تعالى وبه انطلقوا ينيرون الأرض حيثما أقاموا. وإذا كان المد الإسلامي قد توقفت حدته وتدفقه سنة 114هـ = 732م بقيادة والي الأندلس المقدام الهمام المجاهد عبد الرحمن الغافقي واستُشهد هو فيه عند تور بواتييه Tours-Poitires بلاط الشهداء، جنوب باريس نحو 200 كيل، فان الخسارة عظمت به، وإن حاول المد التدافع والترافع والانبثاق هنا وهناك، لوقته وفيما بعده. لكن تَوّقُفَ نهر الخير من الانسياح في تلك الأرض ليسقيها غرساً تكون بساتين خضراء مثمرة، بعد أن تكون صحراء مقفرة، صحراء النفس والحياة والحضارة، ويبسها من الخير والنعم والإنسانية، اعترف بخيره الذاهب عنهم، حتى بعض الأوربيين المنصفين.
دارت بالأندلس لفترة رَحى فتن ومحن اقتحمت ساحتها عَنْوَة، ليوضع لها حد بمجيء الداخل للأندلس. وهو عبد الرحمن بن مُعاوية بن هِشام بن عبد الملك، صقر قريش، بوصوله إليها سنة 138هـ = 755م. فاجتمع عليه الناس وبويع بالإمارة في قرطبة نفس العام. بدأ الداخل -من خلال طاقاته ومؤهلاته وحسن سياسته- جمعَ الإمكانيات والخبرات والتجارب، بإقرار الأوضاع وبناء دولة مُرَكَّنة مُوَحَّدة متماسكة.
كانت على الجانب الآخر –خلف الجبل في فرنسا وما بعدها- الدولةُ الرومانية المقدسة، إمبراطورية فتية قوية يقودها شارلمان Charlemagne (شارل الكبير)، أقوى ملوك الأسرة الكارولنجية (Carolingian Dynasty)، لم يَرُقْه أن تقوم دولة مسلمة في أوربا تجاوره. فَزَيَّنَت له سلطتُه إسقاطَها وإلحاقَها إمبراطوريتَه، في وقتٍ تَبِع انتصارَه على قبائل السكسون، قويةِ الشكيمة الثائرة عليه. واتفق أنّ بعضَ ولاةِ المقاطعات الأندلسية الشَّمالية، لا سيما برشلونة (Barcelona) وسَرَقُسْطَة (Zaragoza) شقوا عصا الطاعة على قرطبة (Cordoba، أرسلوا وفداً إلى شارلمان يستدعونه لمهاجمة الأندلس وأخذها، فجهز شارلمان جيشاً ضخماً من جميع مناطق الإمبراطورية، قاده بنفسه.
وعند وصوله الجبال (البرت، وليس البرانس) قَسَّم جيشَه قسمين: قسم يقوده بعض قادته: يعبر إلى الأندلس شرقاً (على البحر المتوسط) ممّر باربنيان (Perpignan)، وقسم يتولاه هو يجتاز ممر رُنشفاله (Roncesvalles)، (باب الشَّيْزْرا) في الغرب، ليلتقيا عند مدينة سرقسطة (شمال شرق مدريد 325 كيل) التي كان واليها مشاركاً في دعوته، لكن ضميره صحى لهول هذه الخيانة، فغيّر موقفه وحَصّن المدينة ضد حملة شارلمان، مستعداً ومرتباً مصمماً للدفاع عنها.
ولمدة شهر من الحصار، باءت محاولات شارلمان بالفشل، فلم يفلح في دخول المدينة. وتجمعت عليه هموم الفشل وغيرها، فعاد بكل جيشه من المعبر الغربي. وبينما هو في وسطه وقعت له الكارثة الكبرى، هاجم الجيش الأندلسي – ربما بالتعاون مع سكان الشمال- مؤخرتَه وفيها خِيرة قادته فأفنوها، واستنقذوا مَن فيها مِن الأسرى والغنائم، ولم يستطع عمل شئ وهو يشهده بعينه محسوراً لضيق الممر وصعوبة الحركة فيه حيث لا يسمح بالمرور إلا الفارس بعد الفارس. وكان بينهم أشهر قادته، منهم رولان (Roland) الذي نُظِمَتْ حوله الكثيرُ من الأغاني الشعبية في العصور الوسطى الأوربية، معتبرة إياه بطلاً قومياً، منها أنشودة رولان الشهيرة (La Chanson de Roland) ولا يزال قبره هناك مكتوب عليه تاريخُها عام 161هـ = 778م.
وهكذا عاد شارلمان خائباً، نتيجة الوقفة الكريمة التي ظهرت وهزمت الفُرقة والخيانة، التي رُدَّت في نحورهم وظهورهم ودبورهم. فأدرك شارلمان بعدها استحالة هذا الأمر الوهم، فمال إلى طلب السلم مع الأندلس، وأرسل سفارة لذلك، بل وعرض على عبد الرحمن الداخل المصاهرة الذي اعتذر عنها وقَبِل السلم بمعاهدة وُقِّعَت بينهما.
وهكذا ترى كيف أن الخيانة والعمالة تجلب أكبر الأذى، لكن بالالتزام والفهم يتم الالتئام، فلا يستطيع أحد الاقتحام ولا يتم الإتيان من الداخل.
والأمل كل الأمل –إن شاء الله- أن يتم تفهم ذلك والتعلم منه والاعتبار له. وهو بعض المطلوب من وراء كل هذه الحكايات، وهو من الأهداف المهمة لدراسة التاريخ عموماً.