مجلة تراث - عدد 53

ورَهَنَ الملكُ تاجَه

ما من وقتٍ التزم فيه المسلمون بدينهم إلا وفتح الله لهم بذلك المغاليق، وحققوا الانتصارات في الميادين كافة، وعاشوا أعزة يَحُفّون أنفسهم بالبر وينعمون بالخير العميم والسعادة الكريمة والحضارة الوضيئة، ولكل مَن حولهم ومعهم والناس أجمعين. وتلك ظاهرة لم تتأخر على مدار التاريخ وأطوار القرون. وهذا يعني اليوم أنهم اذا أرادوا تكراره فما عليهم إلا الأخذُ بالمنهج الرباني الذي أراده الله للبشرية، يقودون به الحياة نحو الحضارة الإنسانية الحقة.

وما الشقاء الذي يلف البشريةَ ومدنيتَها اليوم ويخنق آمالَها –بعد ما تحققت لها المنجزات العلمية- إلا لِما أدارت ظهرها لهذا المنهج، متقلبة في شتى المناهج الأرضية والوضعية، التي ذهب بريقُها الأخّاذ، وقد ادعت لنفسها ما لم تنجز منه شيئاً، وهي حتماً لا تستطيع، لأنها لا تملك أسباب ذلك، وحتى بعدما امتلكت قِواها أَزِمّةَ الحياة واستبدت بها، متلاعبة بمصائرها، مقامرات ومغامرات نفعية أنانية خادعة مُدَّعية، رغم كل ما تَحْمِل من شعاراتها بَرّاقة، خالية عموماً من كل مضمون كريم.

ويَرِد هنا قانونٌ هداني الله تعالى اليه -إستخرجته من خلال سَيْر التاريخ الإسلامي- أُسَمِّيه: “الخط البياني المُزْدَوَج“. فلو رسمنا خَطّاً بيانياً يمثل الحياةَ الإسلامية –خلال مسيرتها- انتصاراً وانحساراً، ارتقاءً وانزواءً، تقدماً وتخلفاً، ثم رسمنا خطاً بيانياً آخر يمثل مقدار التزام المسلمين بالإسلام خلال تاريخهم، ووضعنا الخطين احدَهما فوق الآخر لتطابقا تماماً.  وهذا يعني أن التقدم في الحياة الإسلامية كان مرتبطاً دوماً بمقدار التزام المسلمين بمنهج الله تعالى. وبهذا الالتزام حققوا الأعاجيب التي لا تكون إلا به. وذلك أن تقارن بما شئت وكيف ومتى أحببت. والبشرية جميعاً اليوم بحاجة اليه، وإن الذي لديها غير مؤَهّلٍ لتحقيق الحياة الكريمة المرجوة.

وتوجد في تاريخنا الإسلامي وحضارته أدلة كثيرة على ما حققه هذا المنهج الرباني للإنسان، مما يُعَدُّ فرائدَ ونوادرَ لا تكون إلا به. وهي تشير وتُلفت النظر الى الخسارة في جعل المسلمين عموماً –حتى بعض أهل الفهم منهم- يَزْهَدون في معرفته ودراسته وتقديمه، بمفاخره وازدهاره وبراءته وبراعته، بردائه وأضوائه، مما جعل هذه المواصفات سِمَةً لازمة قائمة في حضارتنا الفاضلة، بصورة مستمرة، تحدثك عن طبيعتها القائمة المعبرة عن مبانيها ومعانيها. وهي تشير الى مدى الخسارة الإنسانية الكبرى في أبعاد هذا المنهج الذي صنع هذه الصنائع واصطبغت بها حياته “*صبغة الله ومن أحسنُ مِن الله صِبْغةً ونحن له عابدون*” [البقرة، 138].

فهذا الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الثالث (الناصر لدين الله) الذي حكم خمسين سنه (300-350هـ = 912-961م) -والذي وُجِدت مذكراتُه بخط يده! أن أيام السرور والراحة خلالها أربعة عشر يوماً- كان أوسع حكام العالم شهرة ومكانة، وامتلأ بَلاطُه القُرطبي بالقادمين، ملوكاً وأمراء وسفراء، كلهم يخطب وُدَّه. “ومَدّت اليه أُمَمُ النصرانية مِن وراء الدروب يَدَ الإذعان وأوفدوا عليه رُسُلَهم وهداياهم من رُومة والقُسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يَعِنّ في مرضاته، ووصل الى سُدَّته الملوكُ من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قَشْتاله وبَنْبُلونه وما يُنْسَبُ اليها من الثغور الجوفية [الشمالية]، فَقَبَّلوا يده، والتمسوا رضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه”. “ولم تَبْقَ أُمّةٌ سَمِعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية”.

واليك هذه الحادثة العبقرية: ذلك أن شانْجُهُ الرابع  (Sancho IV) أحد ملوك قَشتاله Castile شمَالي إسبانيا ثار سنة 681هـ (1282م) على أبيه الفونسو العاشر العالم (Alfonso X, el Sabio) بن فرناندو (فرديلاند = فيرديناند) الثالث بن الفونسو الثامن ملك قشتالة ذلك الوقت، و هي إحدى الممالك النصرانية في شمالي شبه الجزيرة الإيبيرية (الأندلسية).  ألفونسو العالم عُرف بميله للعلم، وبما كانت له من صلات مع علماء المسلمين، مما أثار السخط عليه في مملكته. فاستنجد هذا بالسلطان المريني (بنو مرين ودولتهم بالمغرب) أبي يوسف يعقوب المنصور، وهرع الملك المخلوع الى لقائه فرهن عنده تاجه. ذكر ذلك العديد من مؤرخينا.

ولهذه الحادثة تفصيلات مثيرة؛ مجملها: أن ألفونسو هذا استنصر بالسلطان المريني المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، الملقب بالمنصور، الذي جاز إلى الأندلس غازياً ومجاهداً في سبيل الله، ولاذ به ألفونسو العاشر هذا واستجار وَرَهَن عنده تاجَه، ذخيرةَ قومه. ولقيه “بأحواز الصخرة من كُورة تاكُرُنَّا” قرب مدينه رُنْدة Ronda، فسلم عليه مصافحاً وقَبَّلَ يده، ولكن لما فرغ أميرُ المسلمين من ذلك طلب الماءَ (بلسان قبيلة زَناتة) ليغسل يده به من قُبْلة ومصافحة ألفونسو، بمحضر من النصارى والمسلمين. ولما تُوُفِّيَ ألفونسو العاشر هذا طريداً سنة 683هـ (1284م) دون أن تتحقق أمنيته في العودة إلى عرشه. فانفرد ابنه شانجه الرابع. وهذا بدوره رغب في سلم مع المرينيين، فتم له هذا الأمر وعقد مع السلطان المريني يوسف (ابن المنصور) معاهدة سلم فقُبِلَت. وكان لقاءُه به بالجزيرة الخضراء Algeciras جنوب جبل طارق Gibraltar.

 ويوم جاء رسول إسبانيا النصرانية إلى مملكة غَرناطة وتكلم مع رئيس وزرائها (لسان الدين بن الخطيب، 776هـ) ذَكَّره بذلك أمام الناس، الذين ذُهلوا معجبين بهذا الموقف الجرئ، وبعضهم قَبّل يَدَه، وهو(و من معه) يبكي  واصفاً ابن الخطيب بولي الله، جعل الله تعالى ذلك خالصاً لوجهه الكريم.

ألا تَعتبر هذه الحادثة من النوادر الفريدة، والتي يحتوي تاريخُنا من أمثالها الكثير الوفير في كل ميدان، ما يجعل الاهتمام به واجباً أو فرضَ كفاية، تنظر الأُمةُ فيه وتعتبر وتقْبس منه، وهي بسبيل استئناف مسيرتها الكريمة بركبها المبارك؟ وذلك هو الرجاء.

الصفحة الأولى
الصفحة الثانية