مجلة تراث - عدد 97

رُؤُى حَقٍ صَدَقَتْ

وتَبْقَى نِتاجات حضارتنا ثَرَّةً غنية مدراراً، لا تكاد ساحاتُها وميادينها ومكامنها إلاّ وهي تمور مُتَقَدِّمة ومُقْدِمة سَبَّاقة، نوعاً وتفنناً ومُعَبِّرةً عن أنماطٍ ذوات نهجٍ ملتزم وخط سليم ونبت ذات رَحِمٍ كريم.

وهاهنا نماذج من حدائقها الغناء وسوحها الفيحاء وعطورها الرَّواء.الأمثلة كثيرة يجري هنا اختيارثلاثة منهامُعَبِّرة متميزة متنوعة الطعوم.

*أُولها: خلاصة أمره أن طارقَ بن زياد القائد الفاتح المقدام، وهو يعبر مضيقه من مدينة سبتة Ceuta,مع آخر مجموعة من جيشه ليرسوا على شاطئ الجبل الذي حمل اسمه والمضيق Gibraltar، وذلك يوم الإثنين الخامس من رجب الخير سنة 92هـ (نيسان711م( لفتح الأندلس, ابتداءً من المعركة الفاصلة معركة وادي البَرْبَاط Barbate يوم الأحد 28 رمضان من نفس العام  ولمدة نحو تسعة أيام. وبينما هو يجوز ماء المضيق أخذته غفوة رأى فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مع نفر من أصحابه، فبشره بالنصر وأوصاه بعضَ الوصايا. ولَمَّا صحا من نومه بَشَّر أصحابه بذلك، فازدادوا ثقةً ومُضِيَّاً وعزيمةً.

“وذُكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب، فرأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يمشون على الماء حتى مروا به، فبشره النبي (صلى الله عليه وسلم) بالفتح وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد. وفي حكاية أنه لما ركب البحر غلبته عينه فرأى النبي (صلى الله عليه وسلم) وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القِسي، فيقول له النبي (صلى الله عليه وسلم): “يا طارق تقدم لشأنك”، ونظر اليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدامه، فهب من نومه مستبشراً وبشر أصحابه ولم يشك في الظفر”

*وثانيها: إنه في معركة الزَّلاَّقَة Sagrajas التي جرت يوم الجمعة 12 رجب، سنة 1086هـ في الأندلس بين المسلمين (أهل الأندلس بقيادة المُعتَمِد بن عَبَّاد والمرابطين القادمين لمعاونة إخوانهم بقيادة أميرهم يوسف بن تاشُفين قائداً عاماً) ونصارى الشمال الإسباني بمعاونة من قدم إليهم من الأوربيين بقيادة ألفونسو السادس. وفي يوم الخميس قبله كتب ألفونسو إلى ابن عباد يخدعه ويحدد له المعركة يوم الاثنين 15 رجب ليباغتهم صباح الجمعة 12 رجب. ولكن أهل الأندلس عرفوا الخدعة فنبهوا ابن تاشفين وحذروه.

ثم إن الفقيه القرطبي أبو العباس أحمد بن محمد بن فرج الأنصاري ابن رُمَيْلة القرطبي كان مع الجيش، فرأى رؤيا حيث أتاه النبي (صلى الله عليه و سلم) قائلاً له: “يا ابن رميلة .. المعركة غداً (الجمعة 12 رجب) وأنت شهيد” فقام ابن رميلة من نومه فرحاً، فحلق واغتسل ودهن وتطيب ولبس البياض وصلى صلاة الاستشهاد، وذهب الى القيادة فأخبرهم. فاستعد المسلمون وباتوا على خيولهم واسلحتهم. وهكذا كانت المعركة فجراً وأنزل الله نصره على المسلمين في يوم الجمعة ذاك. وكان ابن رميلة أحد الشهداء مع آخرين من العلماء من الجند والقادة.

“وبعد هزيع من الليل انتبه الفقيه الناسك ابو العباس أحمد بن رميلة القرطبي –وكان في محلة ابن عباد- فرحا مسروراً يقول أنه رأى النبي (صلى الله عليه و سلم) فبشره بالفتح و الشهادة له في صبيحة غد، و تأهب و دعا و دهن رأسه و تطيب، و انتهى ذلك الى ابن عباد، فبعث الى يوسف يخبره بها تحقيقاً لما توقعه من غدر ابن فرذلند، فحذروا اجمعين، و لم ينفع ابن فرذلند ما حاوله من الغدر”

* وثالثها: إن أول ألفية جمعت قواعد النحو هي ألفية يَحيى بن مُعْطي الزَّواوي (628هـ)، والتي تعرف بعنوان: “الدرة الألفية في علم العربية” والتي بلغت 1021 بيتاً، وكان مطلعها:

يقول راجي ربه الغفورِ          يحيى ابن معطٍ ابن عبد النور

وحذا حذوه جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الجَيَّاني (672هـ) الأندلسي نزيل دمشق، وهو النحوي الفذ المعروف صاحب الألفية الشهيرة والتي هي مختصرة عن: “الكافية الشافية” التي تعد ثلاثة آلاف بيت. ولم يكن ابن مالك الوحيد الذي وضع ألفية في النحو، فقد سبقه ولحقه آخرون مثل الإمام السيوطي (910 هـ). لكن الإمام أبو زكريا ابن معطي الذي له قصب السبق، ويبدو أنه أول من فعل ذلك.

وبالنسبة لابن مالك أنه لما بدأ بها كتب الأبيات الأولى في مقدمتها:

قــــــــال محمد هــــو ابن مالكِ:             أحمد ربي الله خير مالكِ

مصلياً على الرسول المصطفى              وآله المستكملين الشَّرَفا

وأستعين الله في ألفيــــــــــــــهْ              مقاصد النحو بها محويهْ

تقرب الأقصــــى بلفظ موجـــزِ              وتبسط البذل بوعدٍ منجزِ

وتقتـــــضي رضاً بغير سخطِ               فائقةً ألفية ابـــــن معطي

فائقة منها بألــــــــــــــــف بيت               …………………………

وهنا توقف ابن مالك ولم يفتح عليه بإتمام هذا البيت وبقي يحاول يوماً أو أكثر فلم يتم له ما أراد، وفي الليلة التالية جاء شخصٌ في الرؤيا لابن مالك، فقال له: “سمعت أنك تضع ألفية في النحو، قال ابن مالك: نعم، فقال: إلى أين وصلت؟ فقال: إلى (فائقة منها بألف بيت)، فقال: ما منعك من إتمام هذا البيت؟ فقال له: عجزت منذ أيام، فقال له: أتريد إتمامه؟  قال له: نعم، فقال له: والحيُّ قد يغلب ألف ميت، فقال له: لعلك انت ابن معطي! قال له: نعم، فاستحيا منه، فلما أصبح: أسقط ذلك الشطر، وقال:

 

وهو بِسَبْقٍ حائزٌ تفضيلاً           مستوجبٌ ثنــــائي الجميلا

والله يقضي بهبات وافرة           لي وله في درجات الآخره”

ومضى ابن مالك في ألفيته النحوية إلى نهايتها، حيث بلغت 1002 بيت.

الصفحة الأولى
الصفحة الثانية

سلسلة الأندلس رسوم وصور

xyz_0001