مجلة تراث - عدد 96
أراد الرهبنةَ فأسلمَ
الحق أبلج والباطل لجلج (أعوج، ملتبس غير مستقيم) يُقبِل على الحق -قبل غيره- كل مَن سلمت نفسه من الانحراف واستقامت فطرته وأخضع إرادته للحق حيثما يظهر. ولذلك فإنه خلال التاريخ، إبتداءً من اليوم الذي أنزل الله تعالى كتابه وأوحى إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، كان أسرع إلى اعتناق هذا الدين، هم أفضلُ الناس أخلاقاً وأصفاهم فطرةً وأجودهم رؤيةً وفهماً.
وانظر أولئك الذين أسلموا من أول الدعوة الإسلامية، لكن الآخرين قد يرون أحقيةً وحجية وصدقية هذه الدعوة، وتصدهم أمور ورواسب وموروثات. وهم يتفاوتون في ذلك. وبه كان كلُ يوم يَرِد دائرةَ نور الله أفرادٌ، كان كثير منهم حاربه مدة.
ومن لم يلتحق به، رغم معرفته بالحق كانت تصده اعتبارات متنوعة مُوَزَّعة (وموَزِّعة). وحتى اليوم فإن كثيراً ممن دَرَسَ الإسلامَ، وربما يقترب منه، لكن للأسف تعوقه أمور هامشية تراكمية مغرقة تثقله وتقعده وتبعده. ربما أية رسوبات وتراكمات وركامات، كما حدث مع الفيلسوف الفرنسي رينان الذي أشاد بالإسلام وأشار علناً عن شعوره الواضح بالأسف الشديد أنه لم يكن مسلماً؟!
أما أهل الكتاب وعلماؤهم بالذات (يهوداً ونصارى) فقد أسلم الكثير، بما عرف من الحق بصفائه “الذين آتيناهم الكتابَ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم” (البقرة، 146. والأنعام، 20). وأولهم المتنصر وَرَقَةُ بن نَوْفَل، ابن عم خديجة (رضي الله عنها) زوج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة.
ثم في المدينة المنورة حيث أسلم حَبْرُ اليهود عبد الله بن سَلام وخالتُه خالدة. وكذلك مُخَيْريق النَّضْري، والذي كان من علماء وأغنياء وزعماء اليهود، أسلم يوم أحد وخرج مقاتلاً واستُشهد فيها فاستحق وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم له: “مخيريق خيرُ يهود”.
وخلال التاريخ وإلى اليوم يُسْلِم الكثير منهم، فَعَلَ ذلك العديدُ من علمائهم، ثم يؤلف كتاباً، يذكر قصة إسلامه. كما فعل اليهودي الأندلسي الذي أسلم وأسرته نهاية القرن الرابع عشر الميلادي وسَمّى نفسَه: أبو محمد عبد الحق الإسلامي، ووضع كتاباً في ذلك (السيف الممدود في الرد على أحبار اليهود) بيّن فيه–مما بين– ما في كتبهم من البشارات بالرسول الكريم ونبوته صلى الله عليه وسلم.
وحكاية اليوم تتعلق بأحد علماء النصارى الذي درس وهيأ نفسه وأسرته أن يكون راهباُ وعالماً بديانته. وبعد دراستها لسنين طويلة نحو ربع قرن متنقلاً بين البلدان، انتهى به المطاف إلى الإسلام، في قصةٍ عجيبة، ذكرها في كتابه الذي وضعه بعد إسلامه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب). بيّن فيه بالدليل ثبوت نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نصوص الإنجيل. كان قد تدرج في دراسته النصرانية حتى غدا أستاذاً وعالماً فيها. وتنقل من مدينة لأخرى من أجل ذلك. ابتداء من جزيرة ميورقة (Mallorca) في البحر المتوسط، موطنِه، ثم لاردة Lerida قرب برشلونة Barcelona، ثم إلى مدينة أخرى في الشمال الإسباني أو في جنوب فرنسا، حيث درس على أحد أكبر علمائهم، وبقي معه عشر سنوات يساكنه ويخدمه ويدرس على يديه ويَحْضَر دروسه اليومية في الكنيسة، فأحبه الشيخ (القسيس) لما رأى من جديته وصدقه وإخلاصه. وبعد أن مضى على دراسته نحو ربع قرن حدث شيء عجيب.
ذات يوم ذهب التلميذ (الراهب الجديد) واسمه انسيلموترميدا إلى الدرس مع الطلبة الأخرين، لكن القسيس لم يحضر، لِمَا ألم به. وأخذ الطلبة يتناقشون في المعلومات السابقة، فتذاكروا في مدلول كلمة البارقليط اليوناني Periclytos، Periclyte، التي تعني أحمد تماماً، التي سبق للقسيس أن أشار إليها في دروسه السابقة، التي تباينت حولها آراؤهم (الطلبة).
ولما انصرفوا ذهب الراهب إلى دار استاذه القسيس الذي سأله عما دار بينهم، فأخبره عن كلمة البارقليط الواردة في الإنجيل وبشّر بها عيسى عليه السلام. واختلف الطلبة في تفسيرها، وأن بعضهم قال بأنها تعني نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
فسأل القسيسُ الراهبَ، وأنت ماذا تقول؟ قال: بجواب القاضي فلان في تفسيره للإنجيل، فقال له أُسْتاذُه: ما قَصَّرْتَ وقربت، وأثنى القسيسُ عليه، وقال وهو يبكي: إن تفسير هذا الاسم الشريف يعرفه الراسخون في العلم، وتوسل الراهب إلى أُستاذِه أن يبين له معناه، فقال: هو اسم نبي الإسلام –الدين الحق، وإذا أردت الدين الحق فاتبعه- فدُهش وتعجب، فقال الراهب للقسيس (أستاذه): وأنت، فقال: أنا مسلم، ولكن لا أستطيع إعلان ذلك، باعتبار كبر سنه، لأنهم يقتلونني. فاستنصحه عما عليه أن يفعله، قال: إذا أردت الدين الحق فاتبعه، واذهب إلى بلد مسلم وهناك أعلن إسلامَك.
وفعلاً توجه أنسيلمو الراهب إلى تونس، بعد أن مر بأسرته في جزيرة ميورقة، لستة شهور، ثم سافر إلى تونس عَبْرَ صقلية Sicilia،Sicily. وهناك أسلم وأعلن إسلامه وسَمّى نفسَه عبد الله التُرْجمان لأنه امتهن الترجمة. وتزوج ورزق ولداً سماه محمداً. تبركاً باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وعندها ألّف كتابه المهم الجدير بالقراءة والاهتمام والفهم، سائراً في سنن المخلصين الصادقين الأقوياء.
رحمه الله تعالى رحمة واسعة تامة سابغة …