مجلة تراث - عدد 91
مدينةٌ أنقذها الجهاد (مدينةٌ أنقذها حسن التدبير)
بَنَى الإسلامُ – بمنهجه الرباني – مجتمعاً كريماً قوياً أميناً، في كل شيء، من النفس الإنسانية إلى ميادينه ومبانيه الأخرى، لتصل إلى مجتمع يمتلك كل تلك المواصفات التي تجعله عزيزاً متحضراً إنسانياً، لنفسه ومجتمعه وكلِّ مَن عايشهم وعاملهم ولغيرهم. ذلك ميزانُ قانونٍ ومعيار. لكن عدمَ ملازمةِ هذا المنهجِ ومفارقَتَه أو مُواربَة منهجه تقود إلى عكسه وبمقداره.
وعندها تُصبحُ الأمةُ نهباً لعدوها وأهلِ الأهواء فيها، ومَرْكَباً للنهازين من أعدائها وأبنائها المردة على السواء، داخلاً وخارجاً، لا يرقبون فيها إلاًّ ولا ذِمَّةً (لا عهداً ولا أماناً)، يتفننون ويعبثون، يُصَوِّبون ويصبون وحشيتَهم بكل لون يخطر أو لا يخطر على بال، وهم يَدَّعون أنهم يُحسِنون صُنْعاً. وهذا ما جرى في الأندلس مرةً أيام الطوائف. فعلينا أن نستقرئ التاريخ وندرسه بعمق نظرٍ وسَبْر غَوْر.
وحين تعود الأمةُ (أمتنا المجيدة العتيدة) إلى منهجها، يعود إليها كلُّ ما فقدته يومَ ضََيَّعَتْ منه. والحياةُ الإسلامية – وبكل حركة مجتمعها، ماضياً وحاضراً – لا يَريم عن ذلك ولا يَهيم. وهذا جزء من تفسير التاريخ الإسلامي ومعرفة حركته وسُنَن مسيرته.
فبعد تلك الصيغ الفاضلة فيه المتمتعة بالعافية، تلاها – لأسباب – النزولُ إلى التخفف منها والتخلف عنها والتقليل أو البطء فيها، فانزلقت إلى هاوية، عاشت بالفُرقة والتشتت، بسبب ضعف الالتزام، فذاقوا وبالَه، وما أنقذهم إلا العودةُ إلى الخط الكريم ومنهجه القوي القويم.
وحكاية اليوم عن عصر الطوائف في الأندلس، القرن الخامس الهجري=الحادي عشر الميلادي، وما حمله من كوارث كان منها: مدينة بَرْبَشْتْرُ (Barbastro) التي ضاعت بالتقصير وأُنقذت بالجهاد وحسن التدبير. تقع هذه المدينة شمالي الأندلس نحو 400 كيل، فوق مدريد وشَمال غرب برشلونة (Barcelona)، على أحد فروع نهر إبْرُهْ (Ebro)، الذي يصب (يقع) في البحر المتوسط عند مدينة طُرْطُوشة (Tortosa).
وعصر الطوائف في الأندلس، هو عصر التمزق والتشتت والتفكك إلى ممالك صغيرة، حيث بلغت أحيانا فوق العشرين. غَصَّت به الأندلس التي كانت سبباً بدايةً لذَهابه، ولو بعد خمسة قرون، غُصََّةً لم يُذْهِبْها أو يرفعها غير بناء النفس بالنقاوة للمباني والمعاني الخيرة، التي أُقيم عليها ذلك المجتمع ابتداءً، واعتمد دوماً الخط الخلقي الكريم، يوم التزم بالبيعة والقسم وما انهزم.
كانت كارثةُ هذه المدينة على يد النورمان، شعب أصلهم من الأراضي المنخفضة في الشَّمال الأوربي. تقلبت بهم ظروف النهب والسلب والعدوان على كل أحد حيث يمكنهم، وقاست وعانت منهم دول أوربية الويلاتِ، ثم استقر قسم منهم – بعد أن خرج بعضهم من وثنيتهم إلى النصرانية، وأصله دين محبة، وهم على حالهم لم يتبدل فيهم غير المظهر – منطقةً احتلوها شَمال غربي فرنسا، بداية القرن الرابع الهجري = العاشر الميلادي، وحملت اسمهم: نورماندي (Normandy). وهبها لهم ملكُ فرنسا يومها، شارل الثالث البسيط أو الأبله (Charles III, the Simple).
وكان قسم منهم قد وفد إلى روما (رُومَة)، لخدمة الكرسي البابوي، برئاسة قائدهم جيوم دي مونري (Guillaume de Montreiul). ولما سألوا البابا اسكندر الثاني Alexander II: عَمَّ يقربهم في النصرانية، أشار عليهم بحرب المسلمين في الأندلس!؟ مخالفاً أصول دينه.
فسارت جيوشهم المحتشدة في النورماندي نحو الأندلس، مع جيوش من الفرنسيين والإيطاليين. ذُكر أن عدَدهم بلغ الأربعين ألفاً، أغلبهم خيالة. فكانت حملةً صليبية بأوسع معانيها، تكويناً وهدفاً وفعالاً، لا يملكون من النصرانية الحقة غير اسمها، حتي وصلوا مدينة وَشْقَه Huesca) ( الأندلسية. فلما أعجزتهم اتجهوا جَنوبها الشرقي حيث مدينة بَرْبَشْتْرُ، رمضان، 456 هـ = 1064م، فحاصروها أربعين يوماً، جرت خلالها مناوشات شديدة بين كرٍ وفرٍ، لكن المدينة أُنْهِكت واحتل النورمان مواقع خارجها، وقَتَلَ المسلمون منهم عددا كبيراً.
وحدث أن النهر الذي يمد المدينة أُغلق، ثم المجرى الداخلي السري، حين دل النورمانَ عليه أحدُ الخونة، فمُنِعوا الماء بتخريبه وإلقاء صخرة فيه، فانقطع الماء عن المدينة كلياً، وقَلَّت الأقواتُ وبلغ الوضع مُهَدِّدا بالموت والفناء، مما اضطرهم أن يَعرضوا على النورمان الاستسلام والتسليم، مقابل التأمين على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ويخرج المقاتلون وغيرهم كثير من المدينة. وذلك مثلما حدث في بلنسية (كما سيأتي في الحكاية الأندلسية السابعة والعشرين)، فوافق سريعاً النورمانُ، الذين دخلوا المدينة دخول الوحوش الهائجة، قتلاً وهتكاً وفتكاً، خُلُوَّاً من كل معنى متجردين من أي مضامين، حتى بلغت ضحايا القتل بالآلاف أو عشراتها، بَشائع وشنائع يبدو معها الموت مصيراً مفضلاً مغبوطاً، غير ما عُبِثَ بالناس دوساً ورفساً بالرِّجْل والحافر وأسراً، نساءً ورجالاً وأطفالاً.
تم ذلك بشكل عبثي مجرد من أي معنى وقيمة، لعِرضٍ أو حياةٍ أو دمٍ. فهذا هو انتصارهم وفعالهم، وهم يتفننون فيه ويُتْقنونه وبه يَتَفَوّقُون، مما جعل مؤرخونا يعتبرونها نازلةً أعظم من أن توصف.
وتُفيض الروايةُ الإسلامية في ذلك كله، ومنهم معاصرون وشهود عِيان، لاسيما ما سجله المؤرخ الأندلسي المعاصر ابن حيان القرطبي (469هـ=1076م)، والذي يخجل الإنسان من روايته، وهو ما كانوا يستمتعون به بولع غامر. ثم إنهم اختاروا الآلاف من أبكار الفتيات المسلمات ووزعوهن على أمرائهم في أكثر من بلد من بلدانهم.
ضَرَب هذا الحدثُ الأندلسَ كلَّه بزلزاله، فتجاوزت حالةَ الطوائف وتنادت للجهاد، قاده أبو جعفر أحمد بن سليمان بن هُود، الذي لُقِّبَ: المُقْتَدِر بالله. لقيادته حركة الجهاد هذه، فسار موكبه المبارك بالآلاف الستة أو تزيد نحو بُرْبُشْتْرُ، نهاية جُمادى الأولى من عام 457 هـ (1065م)، وتم تحريرها من الوحوش الكاسرة، التي هي دائما كذلك أمس واليوم وغداً، بعد تسعة شهور من بداية المحنة المهلكة المبيدة المبيرة.
وهكذا أذهب العجزُ والفرقة والفشل المدينةَ وأعادها الجهادُ واللُّحْمَة والإقدام. رغم الهول الغامر، حيث لم يُجْدِ الكلامُ والبكاء والدموع، أمام هذا المشهد المريع وأمثاله، حتى لو كان بعضُها دموعَ التماسيح، تماسيح البشر المتوحشة ومهارة التمثيل.
وهذه قضية مثل كثير غيرها في التاريخ الإسلامي –لاسيما الأندلسي- غائبٌ ومغمور مجهول، ومعرفته لازمة مهمة ضرورة حياتية وعلمية وإسلامية. بجانب أن عرض التاريخ الإسلامي بشكله السليم المُؤصّل المُدقّق –مع التعرف عليه- يجعل الجيل أكثر حضوراً وفهماً ووعياً، يستوعب أحداثَ العُصور –مع معرفة عصره- بشكل أدق ويرتقي بفهمه للحياة وطبيعة الإنسان وطريق الارتقاء المُقْبِل عليه.