مجلة تراث - عدد 88
قراصنة أم مجاهدون؟ (قراصنة أم دعاة؟)
احتوت الحياةُ الإسلاميةُ ومجتمعُها وتاريخُها، امتلاءً بالقوة والعفة والهمة، نوادرَ فريدة مدهشة، بما ابتنت عليه نُفوسُ أهلِه من معان كريمة صَلَحت لَبِناتُه، فطاب بناؤه وهواؤه وتفتحت مُناه وطال مَداه، تعددت الميادين، قائمةً ومبتكَرَة تدفع بأهله إلى تيار الحياة يرتادها ويقودها، تتبارى في مضامير الخير ومضامين الفضل والإنجاز. فحيثما تضعه يأتي بالخير، مُعَبِّراً مُزْدَهِراً مثمراً، وكأنه مُؤَهَّلٌ له مُعَدٌّ لمهماته خبير بمُدْرَكاته. يأتيها سبقاً يدعو للنظر ويثيرُ الفِكَر، ممثلاً ومتمثلاً بالعبر.
كل هذا يدعو مُسْلَمةَ اليوم للتريث والتوقف والتعرف، بحثاً عن ذلك البناء الأنيق الرشيق الرشيد. وهكذا كانت تتفتق المعاني أمامهم، يَلِجُون بها مواقع الحياة إبداعاً واقتراعاً في كل ما يُفيد ويأتي بالخير الأكيد والإنجاز الجديد، ربما على غير مثال أو خيال. وأينما تَلَفَّتَّ تجد ذلك، يُعجبك ويجذبك، مراكبَ ومناكب ومواكب، من النساء والرجال والأطفال. اختص العالمُ الإسلامي بأمثالها وأندلُسُها الموعود رافع الأعلام والبنود، وكثيراً منها لا نكاد نعرف تفاصيلَها بل نجهل وجودَها أحياناً، حين الموعد المورود.
فماذا نقول في عشرين بحاراً أندلسياً، لا نعرف اسم واحد منهم، يُبْحِرُون من سواحل الأندلس الشرقية على البحر المتوسط، باتجاه شَماله إلى شواطئ فرنسا. فماذا تراهم يريدون، وما هو سر قوتهم وحقيقة دوافعهم، لِتَحَمُّل ذلك وخوض غمار المجهول وامتطاء غمرات المخاطر، وماذا أعدوا من مؤهلات هذه الرحلة ومتطلبات المهمة وبم استعدوا لها؟
وما أن وصلوا سواحل فرنسا شَمال مرسيليا Marseille، بينها وبين Nice (نيقة)، عند خليج سان تروبيس Saint-Tropes شَمال طولون Toulon في منطقة البروفانس Provanse جنوب فرنسا عند سفوح جبال الألب (Alps: Mts.)، حيث الآن جبال المور massif des maures = الأندلسيون، وتقع عليها قرية غارد فرينيه Garde- Freinet حتى نزلوا فيه باحثين عن مكان آمن، يتخذونه قاعدة لهم، ليبدؤوا القيامَ بمهمتهم.
فكان ذلك الموقع البارز البارع الذي يدل اختيارُه على حُنْكَة وحكمة وخبرة. فأقاموا عدة معاقل وحصون كان أمنَعُها المكانَ الذي يقوم على جبل مرتفع داخل غابات كثيفة تحيط به. واسمه باللاتينية Fraxinetum مشتق من اسم شجرة الدَّردار الكثير هناك، ومنه أُخذت التسميات الأوربية الأخرى.
لكن اسمه في مصادرنا الإسلامية “جبل القِلال” جبل القِمَم. كان ذلك حوالي سنة 277هـ = 890م أيام الأمير الأندلسي عبد الله حفيد الأمير عبد الرحمن الأوسط وجد الخليفة عبد الرحمن الناصر. وتقاطر عليهم الأتْباع من الأندلس والمغرب، فأقاموا دولة استمرت قرابة مئة عام.
والمتوفر من مصادرنا تسميهم ” المجاهدون” لكن المصادر الأوربية المتوفرة -ومنها أكثر المعلومات – تسميهم القراصنة Pirates, Piratas… والقرصنة Piracy, Pirateria.
لكن استقراء الأحداث واستكناه ما تدخره مضامينُها واعتبارَ أبعاد أمثالها تدل على أنهم فعلاً ذهبوا مُجاهدين، لا هاربين ولا ناهبين ولا معتدين.
فانظر أية همة عالية كانت تملأ نفوسَهم وقوة متوقدة أخذتهم إلى هناك وهدف سامٍ جعلهم يتحملون كل ذلك؟ لا شك إنه الجهاد في سبيل الله. فهم لم يذهبوا هذه الوجهة والمذهب ويسعون لهذا المطلب واحتمال السير إلا لذلك. ولابد أنهم عرفوا من الأخبار هناك ووصلت أنباءُ أحوالها وأَسْبَقوا سفرهم بطلائع أتتهم بالأخبار، بجانب المعلومات السابقة، كما هي العادة في مثل هذه الآثار. ولا أُبْعِدُ أبداً أن يكونوا قد علموا بوجود مسلمين هناك، بقايا الفتوحات الإسلامية السابقة لتلك المناطق، أو جاء وفد يحمل إليهم هذه الأنباء، فلَبَّوْا النداء واستجاشوا للفداء، فانطلقوا بالولاء للبناء.