مجلة تراث - عدد 86
قُرطبة تَسْتَقْبِلُ سفيراً
حازت الأندلس خلال قرونها الأولى، لاسيما الرابع الهجري = العاشر الميلادي، أعلى وأرقى وأسمى الأضواء في العالم والإسلامي أحياناً، بما كان لها من بنائها الحضاري الرفيع وفي كافة جوانب الحياة وميادينها. حيث أقامت -بدين الله تعالى- مجتمعاً: رفيعًا منارُه، وَسِيعاً إطاره سامياً مضمارُه، في إهابٍ فسيح، ضَرَبت خِيَمُهُ أطناباً راسخة ثابتة الأوتاد ظليلة الأفياء.
أتضح ذلك كلما اقتربَتْ من منهج الله المبارك، لكل مَن يأخذ به في الأعصار والأمصار، سُنَّةٌ ماضية إلى يوم الدين، وكل خير فيها كان من بركاته. ومنه عَرَفَ العالمُ أفانين الحياة الكريمة، أخذ منها عِلْمَه، أقام عليه تقدمَه الحاضر وآلةَ مُبْتَدَعاته وأركانَ مدنيته، وكان قبلها غُفْلاً وجَهْلاً وعُطْلاً.
والميادينُ الإنسانية الـمُرَكَّنة، عرفها عالمُ الإسلام ابتداءً، بأعراف ثابتة كريمة وفنون سامية أنيقة وآداب عالية رقيقة طَبَعَت حياتَه، في وقت كان كل ما حوله مَحْلا غريباً وقاحلاً سليباً وجَدْباً رَعيباً، حتى ما يدركه أو يفهمه فضلاً عن أن يَعْلَمَه.
من ذلك فن الدبلوماسية، بكل فضائله وخلقياته وأعرافه البَرّة، التي لا تلحق غبارَه دبلوماسيةُ اليوم، وقد سبق أن مر طرف منها في الحكاية الأندلسية الأولى “سفارة أندلسية إلى الدنمارك”. تلك كانت من الأندلس ذاهبة جواباً، أما سفارة اليوم فهي قادمة إليه ركاباً، وان اختلف الاتجاه.
وموضوع الدبلوماسية والعَلاقات الدولية الإسلامية في حضارتنا أمر شِبْهُ مجهول أو مغيب في دراساتنا الأكاديمية والدراسات العلمية والمواد الجامعية.
وحكاية اليوم تُقَدِّم خَبَرَ سفارةٍ ألمانيّة يرسلها الإمبراطور الألماني (إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة): أوتو الأول (الكبير)، Otto I (the Great) إلى حاكم العصر الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله، الذي كانت مدة حكمه فوق خمسين عاماً، كل النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وُجِدَت في مذكراته أنه استراح خلالها 14 يوماً لا غير!!!
ازدهرت في الأندلس كافةُ جوانبِ الحياة وبلغت حضارتُه مبلغاً عظيماً، لاسيما القرن الرابع الهجري، فماجت الدروبُ إلى قرطبة بالبعثات الدبلوماسية والسفراء والوفود الرائدة الراغبة الراجية (منهن أميرات) من البلدان، خاصة الأوروبية، كل يطلب وُدَّها ويروم صداقتها. وهكذا توالت السفارات إليها برئاسة سفراء أو أمراء أو رؤساء.
وخيرُ مَن وصف ذلك ابنُ حيان القرطبي (469هـ=1076م) ونقله عنه آخرون، مثل ابن خَلدون (أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، 808هـ=1406م)، “ومَدَّتْ إليه أُمَمُ النصرانية مِن وراء الدُروب يَدَ الإذعان، وأوفدوا عليه رُسُلَهم وهداياهم من رُومه والقُسْطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يَعِنُّ في مرضاته، ووصل إلى سُدَّته الملوكُ من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين، فَقَبَّلوا يَدَهُ والتمسوا رضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه”. “وهادَتْهُ الرومُ وازدلفت إليه تطلب مهادنتَه ومتاحفتَه بعظيم الذخائر ولم تبقَ أُمَّةٌ سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية”.
وكان من بين هذه السفارات تلك التي أرسلها أوتو الأول إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، الذي أرسل سفارة برئاسة سفيره، الراهب: يوحنا الغُرزيني (John of Gorze)، حاملاً معه رسالة الإمبراطور، راجيا فيها الخليفةَ الناصر أن يتدخل في موضوع دولة المجاهدين في جبل القِلال (الحكاية الأندلسية السابقة). ووصلت هذه السفارةُ قرطبةَ العلم والمجد والحضارة، بعد سنه 340هـ(=951م). لكن هذه السفارة بقيت في قرطبة نحو ثلاث سنوات، يقال: إن السفير الراهب تعلم العربية وحمل معه في عودته منها بعضَ المخطوطات.
وخلال ذلك أرسل الناصر سفارة إلى ألمانيا للقاء الإمبراطور، وعند عودتها إلى قرطبة بدأت ترتيبات لقاء السفير الراهب يوحنا لمقابلة الخليفة في ربيع الأول النبوي 345هـ = صيف 956م، في مدينة الزهراء الخليفية الواقعة خارج قرطبة غرباً على بعد نحو ثمانية كيل، والمستلقية عند أقدام جبل العروس. وفى القصر الخليفي في قاعة مجلس السفراء المسمى: المجلس المؤنس، أُقيمت الاحتفالات بحضور رجال الدولة والجند والمستقبلين من الناس في حفل بالغ الحفاوة والاحتفاء، ودخل السفير الراهب المجلس. وكان الخليفة جالساً متربعاً على سريره، وقَبَّلَ السفيرُ يَدَ الخليفة. لكن السفير كان متوتراً، إلا أنه تعجب من سماحة الخليفة وحديثِه عن الإمبراطور، وكان استقبالاً رائعاً حفيلاً، جعل السفير يذهب توتُّرُهُ، وتحادثا في الأمور اللازمة وانتهت المقابلة على أن تتكرر.
وإلى هنا تقف مذكرات السفير، حيث جُلُّ هذه المعلومات منها، مكتوبة باللاتينية، مترجمة إلى الإسبانية. ولدى رحيل السفير الألماني وسفارته وَدَّعَها الخليفةُ الناصر بنفسه في احتفال رسمي، وكان ذلك في نفس الشهر من العام.
هذه مشاهد من الحياة الدبلوماسية الأندلسية غنية بالتفاصيل، وقد أوعبتُها بحثاً في أكثر من دراسة، لاسيما أطروحة الدكتوراه عن: العَلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوربا الغربية خلال المدة الأموية، المطبوع كتاباً بالإنجليزية، وترجمتُها العربية ظهرت بفضل الله تعالى في المجمع الثقافي، أبوظبي، 2004.
ولقد تبين خلال ذلك كله مما عَثَرتُ عليه واكتشفت وكشفت اعتماداً على مصادر منها مخطوطة أن الأندلس بجانب كل ذلك وضعت بذور التمثيل الدبلوماسي الدائم الذي أنشأته، ربما في أكثر من مناسبة ومكان.
هكذا كان حال الأندلس: سما وتعلم وتقدم بمقدار أخذه بالمعاني الفاضلة، كانت المصدر الوحيد لكثير من العلوم والمبتدعات والتقدم، هديتُها لعالم اليوم. مثلما أن التردي دون تلك المعاني يأتي بمباعدتها. لكن العودة – والعَوْدُ أحمد – يوم تعود الأمة للخير والقوة والنصر كلما عادت إليه وأخذت به واحتضنته.