مجلة تراث - عدد 85
فروسية المرأة الأندلسية
جعل الإسلامُ المرأةَ المسلمة في أحسن موضع، لم تعرفه ولن تعرفه إلاّ بالإسلام وحدَهُ. وتكريمُه لها – كَشِقِّها وشقيقها الرجل– طبيعي، حيث إن الله تعالى كرَّم الإنسانَ، كُلَّ إنسان “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا” (الإسراء، 70). وذلك بديهي لمن فَهِم الحياة بعيونٍ كريمة. وهو واضح لأهل الإسلام ومعروف موصوف للمنصفين من غير أهله، فقد خلق الله تعالى المرأة والرجل من نفس واحدة. وقد أشير إلى طرف من ذلك في الحكايتين الأندلسيتين الثالثة والرابعة سابقاً.
شاركت المرأة في بناء الحياة الإسلامية وترسيخ قواعدها، ودورُها لا يقوم به غيرُها، وأولُها تربيةُ النشئ وإعدادُه وتقويمه، تمد به الحياةَ الفاضلة. ومع كل ذلك فقد قامت بكل دور آخر يتناسب ووظيفتَها التي أعَدَّها اللهُ سبحانه وتعالى لها، مما يتماشى وفطرتَها وتكوينها وخِلْقَتها. وهذا واضح منذ الحياة الإسلامية الأولى أيام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومنذ العهد المكي، وهو ما سارت عليه الأجيال في القرون التالية.
أليس أول مؤمن إمراه، وأول شهيد امرأة، وأول مهاجر إلى الحبشة امرأة، وأول مهاجر إلى المدينة المنورة امرأة، وأول من روى نزول سورة الأنعام جملة واحدة في مكة امرأة، وأول من هاجر الهجرتين وصلى القبلتين امرأة، وأول من نصح الخليفة عمر بن الخطاب وصوبه امرأة، وأول من بنى جامعة في الإسلام – أول جامعة في العالم (245هـ) – امرأة، وغير ذلك كثير، وهذه هي المفاخر والأمجاد التي تبقى على مدى القرون شاهدةً ناطقة.
ضَرَبَتْ المرأة المسلمة بسهم كبير في كافة الميادين في العالم الإسلامي وفى الأندلس، وبكمٍّ وفير. فكانت أديبة ومربية ومعلمة وموجهة وعالمة وفقيهة وطبيبة بل وحتى فارسة.
ولدينا في هذا مثال رائق، تلك هي جميلة العذراء بنت عبد الجبار بن راحلة، التي اشتهرت في الأندلس بجمالها وربما بشِعْرها. كما كانت مُشْتَهِرة بالشجاعة والنجدة والفروسية ولقاء الفرسان ومبارزتهم حتى في العساكر، كأختها –مثلاً- خوله بنت الأزور، وأُخريات.
وحين ثار أخوها محمود ضِدَّ السلطة الأندلسية في قرطبة (وقد مرت قصته في الحكاية الأندلسية الثانية عشرة سابقاً) كانت هي تدعوه إلى الطاعة وهو يدعوها إلى الخِلاف. ثم لجأ مع أخته جميلة وبعضُ أتباعه إلى مملكة ليون Leon عاصمة إسبانيا النصرانية يومذاك مستجيراً بملكها الفونسو الثاني Alfonso II، الملقب عندهم بالعفيف (El Casto، The Chaste).
لكن أختَه جميلة كانت تدعوه للعودة الى الطاعة للسلطة الأندلسية في قرطبة ونبذ الخِلاف، حتى رأى فعلاً أنه لا يصح الاستمرار في هذا الشأن. فندم على ذلك وكاتب الأمير عبد الرحمن الأوسط (الثاني) سنة 225هـ =840م، لكن ألفونسو أحَسَّ بتلك المكاتبة فخشي أن ينقلب سلاحاً ضده، فواجهه مع جنده وأحاطوا به وبأخته ومن معهما، فحاربوه مستبسلين، وهو وأخته يصولان ويجولان مدافعين ببطولة، لكن أخيها الفارس محمود اصطدم بشجرة قتلته، وربما قتلت أخته معه أو فَرّت أو أُسِرت.
فانظر كيف كان موقعها وموقفها ووفاؤها. كانت بانية حانية موالية، أبلت أحسنَ البلاء في فروسيتها وولائها لقومها وبلدها ودينها، وَفِيّةً لواجباتها. تحث على الخير وتصونه وتكف عن الشر وتُدينه وتنصح ما وَسِعَها، بالعفة والأُمومة والصون.
هكذا كانت تربيتها التي تلقتها في ذلك المجتمع الكريم بمبانيها المضيئة وتربيتها البريئة وتكوينها الإسلامي الرصين.
تلكم هي المرأة المسلمة في الأندلس وغيره، من عالم الإسلام الواسع خلال القرون. حازت مكانتها الراقية وأدّت دورها البَنّاء وحققت إنسانيتها، في حضارة فاضلة مثلها، ومنارة رفيعة وحياة وارفة، حققه لها ولأخيها الرجل هذا المنهج الإسلامي الرباني الكريم، لا يحققه أبداً غيرُه بأي حال.