مجلة تراث - عدد 84
مَغْرورون أم مُكْتَشِفون؟
كم من صفحاتٍ ناصعة زاهرة باهرة، تحتويها الحضارةُ الإسلاميةُ في رحمها الودود الولود وأكنافها، بعضُها تَناثَرَ أو انْدثَرَ أو انغَمَرَ، هي جديرةٌ بالتنقيب والتنقير. لكن المتابعةَ والتحري المكيثَ يأتي بالغرائب، وكل ذلك من فضائل هذه الحضارة الإنسانية، التي أقامها منهجُ الله تعالى، كلما أخذ به المسلمون.
والموضوعُ بحاجةٍ إلى همةٍ عالية ورغبة بانية ومنهجية رشيدة. تُنَضِّج فهمَ الأحداث، ولا تقف عند ظواهرها، بل تنظر في بواطنها متعمقةً في أغوارها، لتأتي بالجيد الجديد، إخباراً واعتباراً وأنهاراً. وذلك شامل في الجوانب المادية والعلمية والقيمية الروحية والاجتماعية والإنسانية.
وإذا كان ذلك عاماً في هذه الحضارة الإسلامية، فإن لها في الأندلس سهماً كبيراً ومُثيراً وجديراً، ومنها أفاد الغرب وارتوى نَهْلاً وعَلاً دون تحفظٍ أو تريث أو حدود، في بناء حضارته وتقديم الكثير من منجزاته وما حققه من مبتكراته، في الجوانب التي أرادها، والتي يَظن البعضُ خطأً أنه انفرد بها وكان لها رائداً ومالئاً ساحاتِها ابتداءً.
من ذلك الكشوفُ الجغرافية وارتيادُ المجاهيل، بَراً وبحراً وجواً. والمسلمون هم الذين بدؤوها ووضعوا أُسُسَها ومهدوا لها قبله بقرون.
يَذكر الشريف الإدريسي –الجغرافي المسلم، العالمي- (487-568هـ=1100-1165م) إبتداءً في القسم الأندلسي من كتابه “نُزهة المشتاق في اختراق الآفاق” قصةً لاكتشاف المحيط الأطلسي المسمى بحرَ الظُّلمات، جَرَتْ أواخر القرن الثالث / أوائل الرابع الهجري = القرن التاسع / العاشر الميلادي، وإن كان قد سبقتها ارتيادات أخرى لنفس المحيط.
وملخصُ القصةِ –موضوعُ الحكاية– أَنه اجتمع من أهل مدينة لِشْبُونه (عاصمة البرتغال اليوم) ثمانيةُ رجالٍ أبناءُ عمومة من دربٍ واحد، سُمِّيَ باسمهم “دربَ المغرورين”، ولابد أنهم كانوا بَحّارةً لهم خبرةٌ بركوبه، اتفقوا على خوض بحرِ الظلمات الأطلسي ليعرفوا ما فيه، فاعدوا مركباً ملؤه بالزاد والماء يكفيهم لأشهر، وساروا لأول الريح الشرقية ولمدة أحد عشر يوماً فواجهوا موجاً وقلةَ ضوءٍ أيقنوا بالتلف. فأداروا أشرعتهم نحو الجَنوب لأثنى عشر يوماً، وصلوا جزيرة الغنم، لكثرتها. فنزلوها وشربوا من عين جارية وأكلوا من فواكه التين.
ولما ذَبحوا من أغنامها وجدوها مرة، فأبحروا نحو الجَنوب أثنى عشر يوماً حتى وصلوا جزيرة عامرة، فأحاط بهم أهلُها وأخذوهم، فرأوا رجالها طِوالاً شُقراً شعورُهم سبطةً ولنسائهم جمالٌ عجيب، فاعتُقلوا أياماً ثم رَحّلُوهم وأوصلوهم إلى بَرٍ بعد نحو ثلاثة أيام عند مرسىً في أقصى المغرب.
هذه خلاصة القصة التي تناولتْها التفسيراتُ والتحليلات للأماكن التي وصلوها. والظنُ أن الجزيرة الأخيرة التي وصلوها هي إحدى جزر الكناري (Canary,Canarias = الخالدات). أَوَ ليس أوْلى إذن تسميةُ هؤلاء الفتيةِ “المكتشفون” لا المغرورون أو الـمُغَرَّرون؟
وهكذا فإن في فصول المدوَّنات الإسلامية نماذجَ لهذه القصة سَبَقَت أو لَحِقَت في الأندلس بالذات، منها رحلة الشيخ القادسي من مدينة قادس (Cadiz) الأندلسية وقصة خَشخاش، فتىً من أهل قرطبة في جماعةٍ من أحداثها أَعدوا مراكبَ ارتادوا بها المحيطَ الأطلسي وعادوا بعد مدة.
ألا ترى أن ما قدمته الحضارةُ الإسلامية ابتداءً وابتداعاً وإيداعاً في الحضارة الإنسانية كانت رائدة فيها، وهي كثيرة متنوعة متدافعة بحاجة إلى اكتشاف.
ألا يصح إذن أن نقول: ” إنه اكتشاف بحاجة الى اكتشاف”.