مجلة تراث - عدد 83
علماء الهمة والعزيمة
مجتمعنا الإسلامي الكريم وحضارته يموج بالصيغ العزيزة الباهرة بكل ألوانها وصِيَغها. إذا مررتَ بها كأنك في بستان رائق، تنوعت أزهاره وتضوعت رائحته، وما غاب المسك عن ساحته عموماً، يعجبك ذِكْرُ ذلك وتُكَرِّرُهُ، مُتَفَوِّحاً ناشراً عطراً
أَعِدْ ذِكْرَ نُعمانٍ مِراراً فإنهُ هو المسكُ ما كرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
أثمرت طُعوماً غِذاءً شِفاءً، وهو يحدثك عن نفسه دون إعلان وبلا ادعاء، الذي ليس من طبيعته
والمسكُ ما قد شَفَّ عنه ذاتُه لاما غدا ينعتُه بائعُهُ
وكلما وادعته أو داعبته وناغيته ظهر طيبه فواحاً وذكت رائحته وتناثرت وتطايرت باهرة أخَّاذة مترامية.
كل هذا مشتق من واقع الحياة الإسلامية وحضارتها، في عالمها الواسع، كلما أخذت بشرعه. وللأسف فان حقائقها مازالت بحاجة إلى سَبْر غَوْره والنظر في أعماقها وإحسان قراءتها والتأني في فهمها. ولذلك فإن الحديث عنها لا تغنيه روايتُها وسردُها ورؤيةُ ومعرفة ظاهرها، والبحث عنها في النصوص المتوفرة والمنتظرة، حيث ضاع الكثير من ثروة أصيلة كانت ملكاً له.
ذلك مهم أساس، لكن لابد من تأصيله كله، دراسةً وفهماً وتقديماً. وأنت واجده في عموم حضارتنا الفاضلة خلال مسيرتها، وفي الأندلس خصوصاً، لتريك عجائب أنشأها ذلك البناء الرصين لمجتمعها المتحضر، حتى ليعجب الدارس منبهراً بتلك النماذج، التي صنعها هذا المنهج “صِبغةَ اللهِ ومَن أحسن من الله صبغةً ونحن له عابدون ” (البقرة، 138).
فكان بناؤه نسيجَ وحدِه، جَمّاعاً للخير من كل أطرافه، يدعك تبحث عن سره المكنون، يوقفك عنده، لتستضيء به. كله تراه واقعاً، أفضلُ ما تقرؤه سلوكاً في أهله. تَزَيَّوْا به خُلُقاً وتعاملاً بلا افتعال، تربيةً وبناءً بلا مثال ابتداءً، تفتقت عنه حياتهم ثمارًا كريمة حتى لكأنه خِلْقَةً وسليقةً وفطرة. فقس على ذلك أمر الحياة الإسلامية في حركتها الحية وبنائها الإنساني الوديع الرفيع. ومن الواقع الحياتي نستقي أروع الأوصاف ونستخرج أرفع الأحكام، عالية مرفرفة في عالم مجتمعاتنا الكريمة عموماً، وفى الأندلس منه بالذات.
فاسمع واقرأ واستخرج من موقف هذا العالم الأندلسي ما يَسَعُك ووسِعَك وتريد. عالم فقيه أندلسي من أهل مدينة طُلَيْطُلَة Toledo، كانت عاصمة القُوط قبل الفتح الإسلامي للأندلس، تقع جنوب غرب مدريد (عاصمة إسبانيا اليوم)، نحو سبعين كم (كيلا) على نهر تاجُهُ Tajo، يصب عند لِشْبُونه , Lisboa Lisbon (عاصمة البرتغال الآن)، في المحيط الأطلسي. وطليطلة أوائل ما فتحه المسلمون من مدن الأندلس في الربع الأخير (ذو القعدة) 92هـ = سبتمبر (أيلول)711م، وأوائل ما سقط منه، أواسط المحرم أو مستهل صفر 478هـ = مايو (مايس) 1085م. وكم حاول المسلمون هناك استعادتها فلم تسعفهم الأحوال.
وكان من عادة النصارى عند سقوط مدينه أندلسية أن يحولوا مسجدها الجامع إلى كنيسة المدينة الكبرى Catedral, Cathedral، رغم الوعود الأكيدة بعدم القيام بمثل ذلك. وهكذا فعلوا مع طليطلة، إذ بعد سقوطها ربما بأشهر أو أسابيع حَوَّلوا مسجدها الجامع إلى كنيسة ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه والدخول إليه، لكن أحد الفقهاء الأفاضل الذي لا نعرف غير لقبه: المُغامي (نسبه إلى قرية مُغام القريبة من طليطلة) أصر على دخوله ليصلي فيه ويقرأ القرآن الكريم يطيل صلاته وقراءته، بينما الجند من حوله مدججون بالسلاح يستحثونه على الانتهاء والخروج منه، وكأنه ما كان يريد تركه ومفارقته، ولو كان بإمكانه لحمله معه أو أقام فيه عُمْرَهُ.
وإنه لمن الغريب ألا نجد معلومات عن هذا الفقيه فلعلها كانت وذهبت، مثل ذَهاب هذا المسجد، ضمن ما دُمِّر وأُحْرِق من مئات الآلاف من المخطوطات. والذي بقي بأيدينا -مما وصلنا- مصدر واحد يذكر هذه الحكاية، وهو كتاب “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” (جزيرة الأندلس)، لابن بسام الشَّنْتَريني (542 هـ) من مدينة شَنْتَرين Santarem، بالبرتغال اليوم، شمال شرق عاصمته لشبونه Lisbon, Lisboa، نحو سبعين كيلا. ثم شرع ألفونسو السادس Alfonso VI بتغيير المسجد الجامع كنيسة، بقوة السلاح، في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وأربع مائة.
“وحدثني (يقول ابن بسام): مَن شَهِد طواغيتَه تَبْتَدِرُه في يوم أعمى البصائر والأبصار منظرُه وليس فيه إلا الشيخ الأستاذ المُغامي آخر مَن صَدَرَ عنه واعتمده في ذلك اليوم ليتزود منه، وقد أحاط بالمسجد وبالشيخ مَرَدَةُ عفاريته وأوائل طواغيته، وتكاثر عليه جند الفِرَنج لتغيير القبلة.
وكان مع الفقيه أحد تلاميذه يقرأ فكلما قالوا له عَجِّل أشار هو إلى تلميذه بأن أكمل. ثم قام وما ارتعب ولا تهيب، فسجد به واقترب وبكى عليه مَلِيَّـاً وانتحب، فما جَسَرَ أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته، وعصمه الله تعالى منهم. والنصارى يعظمون شأنه ويهابون مكانه، لم تمتد إليه يد ولا عَرض له بمكروه أحد”.
وهكذا عصمه الله تعالى منهم حتى أكمل قراءة ما يريد، وسجد سجدةً ورفع رأسه وبكى على الجامع بكاءً شديداً حتى خرج لم يعرض له أحد بمكروه. وكأنه يحمل حزن القرون السابقة والحاضرة واللاحقة.
فذهبت طليطلة واسطة العِقد في الأندلس العتيدة المريدة الفريدة.