مجلة تراث - عدد 81
عِزَّةُ العِلْمِ بأَهْله
وَفَّرت حضارتُنا وحياتُها مواصفاتٍ وأعرافاً ورسوماً، أصبحت سمتاً كريماً، أرست قواعدَه وأقامت أُصولَه وأَعلته، بناءً متميزاً. عُرِفت به بكل الميادين والأفانين والموازين، ثبتت لديهم، وأصبحت نموذجاً يُحتذى ومثالاً يقتدى وأعلاماً بها يُهتدى. غدت من المقومات العلمية والظواهر الحياتية في حضارتنا، حيث العلم فيها فريضة، كما أن العلم للعمل.
قَدَّمت حضارتُنا -في بلدانها كافة، ومنها الأندلس- أعلاماً عالية من الرجال والنساء، الذين أسهموا فيها. نجد في ذلك كتباً جعلت هذا موضوعاً لها، وهي كثيرة، من مثل كتاب: جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحَمْله، يقع في جزئين، لعالم الأندلس والغرب الاسلامي: أبو عمر يوسف بن عبد البَـر (463هـ=1071م). وكان هذا الكتاب جواباً على سؤال سائل. بجانب ما يُذكر من تلك المواصفات حين الحديث عن الأعلام كافة، لدى ترجمتها في كتب الأعلام الأندلسية، وهي بالعشرات. فمواقفهم الكريمة واعتزازهم بعلمهم وبأنفسهم ومكانتهم رائعة مضيئة رفيعة. فقد عَرَفَت الأندلسُ -مثل غيرها من بقاع هذه الحضارة- منه الكثيرَ.
والأمثلة في ذلك متنوعة في كل العصور، حتى في العصور الصعبة من مثل عصر الطوائف في الأندلس (القرن الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي). فمن مأثور الأمثلة في هذا ما تَرويه كتبُ التاريخ عن العالم اللغوي المذكور بالديانة والفقه والورع، أبي غالب تَمّام بن غالب المعروف بابن التَيّاني، القرطبي الأصل (الـمَرِيَّـة Almeria، 436هـ=1044م)، أنه صنف كتاباً جليلاً، وكان يومها يسكن مدينة مُرْسِيَة (Murcia) شرقي الأندلس على البحر المتوسط. ولما وقف على هذا الكتاب أبو الجيش، مجاهد بن عبد الله العامري (436هـ=1044م)، أرسل الى ابن التياني ألفاً من الدنانير الأندلسية مع كسوةٍ، كي يزيد التياني في ترجمة الكتاب عبارة: مما ألفه تَمّام بن غالب لأبي الجيش مجاهد، لكن التياني رَدَّ عليه هديته، قائلاً: كتابٌ صنفتُه لله ولطلبة العلم، أصرفه إليه؟ هذا والله ما لا يكون أبداً! فكان أن زاد التياني في عين مجاهد وعَظُم في صدور الناس. كما يُذكر أن التياني قال أيضاً بهذه المناسبة: والله لو بُذِلَت لي الدنيا على ذلك، ما فعلت ولا استجزت الكذب، فاني لم أكتبه له خاصة، لكن لكل طالب عامة. فاعْجَب لهمة مجاهد وعلوها، وأعجب لنفس هذا العالم وعزتها. وهكذا ينبغي ان تكون الهمم وهذا ما يجب على العلماء.
وبِـضُمَّر الأقلام يبلغ أهـلُـها ما ليس يبلغ بالجياد الضُّـمَّـرِ
وهكذا كانت لهذه المعاني عند العلماء الأندلسيين، مكانةٌ وأهميـةٌ. وبهذا المستوى كان فعلها في كل أوان وميدان، وهي أمضى من سِـنان. اذاً: فليس عجباً أن يكون قلم الكاتب الصادق الأصيل أمضى من سنان المحارب النبيل.
وبهذه الدوافع والبناء والقواعد، نجد ظواهر كثيرة جداً، غريبة وعجيبة. وهي عامة مألوفة، دعتهم الى التوسع في هذه الظواهر، إحدى ثمار ذلك البناء، الذي ملأت ظواهرُه العلمية الفاضلة جوانبَ المجتمع، وسادت وأصبح لها الاهتمام والمكانة والامتياز، حتى جرى التنافس فيها. وهذا وغيره يُنْبِئ بوضوح كامل وإضاءة قوية وتعبير مسموع عن حقيقة هذا المجتمع وبنائه الرصين ومتانة مقوماته الأصيلة. وهو لا يتأتى إلا بالبناء على هذا المنهج الرباني الكريم السليم.