مجلة تراث - عدد 80

إنهم يخافونه ميتاً

أينما تُنَقِّب في تاريخنا -بجوانبه وامتداداته وتنوعاته- تجد روائع باهرة وإشراقات آسرة، كان لها أن تكون سائرة. وقد يَعْجَب كلُّ أحد: كيف ولماذا غابت هذه عن الذاكرة؟

وللوصول إليها لابد مِن جهد وتنقيب وتنبه، يقوم على الصبر والمعرفة والخبرة. وتجد هذا مركوناً أحياناً، ربما لم يجرِ التوجه اليه، أمام الحُجُب والأغشية والأغطية التي حجبته عن الرؤية العابرة، وأحياناً حتى المتريثة المكيثة. وهي مهما بدت صغيرة مُهَمَّشَة، لكن لها مدلولاً مُدْرَكاً قريباً أو محبوكاً بعيداً، له قيمة عليا في معرفة أبعاد الحياة الغائرة، بمعانيها ومبانيها وكرائمها، متأصلة في مراميها. تدل عليها طبيعتُها القوية الغائرة، لا تنفك تصنع الصيغ الكريمة البعيدة عن توقع توفرها بهذا الشكل الأنيق، وهي كثيرة منيرة وضيئة متدفقة.

وهذه الحكايات موضع مناسب وموقع متناسق وبيان رائق، يستدعي إظهارَها. وهذا جانب يتعلق بظواهر حاضرة لحضارتنا. إنها محمية، من الصعب اختراق مجتمعه الذي يموج برسوم وأعراف، تمثل طابَعاً لها قوة ظهور عميقة الجذور، أصالةً ودلالة وتوجهاً. وهي أثر من البناء الإسلامي لهذه الحضارة الكريمة المنيرة الربانية.

وهذه المواصفات يعرفها الآخرون، وعلى ضوئها يتصرفون. وهي ظواهر كثيرة، من مثل صدق المجتمع والتزامه بالقيم المضيئة والشجاعة البارعة التي لا تُغْلَب ولا تُهْزَم. وهي عَصِيّة على ذلك كله وما يجري مجراه، وذلك لابتنائها وقيامها على عقيدة التوحيد الصافية الكريمة وشريعتها الانسانية الرائعة، التي أنبتت هذه الصيغ الفاضلة التي تفتقدها أيةُ حضارة أخرى. فأمَدَّت هذه المعانيَ مبانيها في كافة الأحوال، وإن نزلت أحياناً، أو انحرفت زماناً، أو ضعفت مكاناً، لكنه دوماً تعود لأصله وبجهدٍ كبير أو غير كبير، حسب الأحوال والظروف.

         وما مضى في الحكاية السابقة يصلح شاهداً عليه، لكن القصة التالية، فيها لهذا الأمر شاهد ومدلول. وهي قصة الفارس الأندلسي.

وهذه القصة من النوادر المهمة العجيبة. وهي تتعلق بهذا الفارس، الذي لم يكن فريداً، رغم مكانته. إنه محمود بن عبد الجبار بن راحلة، أحد بني طريف من مصمودة -أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط، 206-238هـ=822-852م- الذي واجه مع القلة من رفاقه ملكَ ليون Leon الفونسو الثانيAlfonso II  (175-228هـ=791-842م)، ومعه فِرَقٌ من جيشه. وجرت بينهم معركة حامية قوية غير متكافئة (225هـ=840م)، قاتَلَ فيها ابنُ راحلة بشجاعة فائقة عجيبة متألقة. ورغم ذلك لم يستطيعوا النيل من ابن راحلة، لكنه -ويا للأسف الكبير- قُتِلَ بطريقة غريبة نادرة غير متوقعة، وبلا سيف وبلا نزال أو قتال، وهكذا جرت فجأةً.

 والوحيد من كُتّاب مصادرنا الذين رووا هذه الحكاية في كتابهم “المُغْرِب فى حُلَى المَغْرِب”، أسرة بني سعيد، وتمت صياغته على يد آخر هذه السلسة الكريمة الأدبية العلمية التاريخية: علي بن موسى بن سعيد الأندلسي (685هـ = 1286م).

ذلك أن فرس ابن راحلة جَمَحَ به حين كان يحارب ألفونسو وجيشَه، فاصطدم بشجرة بلوط فكان فيه حتفه. وبقي مستلقياً وهو ميت ولا يجرؤ أحد من فرسان ألفونسو الاقتراب منه. فوقفوا فوق أَجَمَة (مُرْتَفَع) بعيدين، خوفاً أن تكون حيلةً منه أو كميناً لهم. وهذا هو نصه “وبقي [ابن راحلة] مُجَدَّلاً في الأرض حيناً، وفرسان النصارى قيام على ربوة يهابون الدنو ويخافون أنها حيلةٌ منه.”. وبعد انتظار طويل اقتربوا بخطىً بطيئة متئدة مترددة حتى تأكدوا: أنها ليست حيلةً.

وهكذا ترى مثل هذه المعاني الرفيعة القوية البديعة في كافة الميادين، لا ترى فيها فاقعاً ولا تخلفاً ولا ضعفاً ولا تردياً. ذلك ما قدمه المجتمع المسلم في جوانب الحياة المتعددة وميادينها المتنوعة، فانظر وتَمَلَّ واعْتَبِر.

وقد تقدمتْ في هذه الحكايات ألوان الأنماط البارعة من الأحوال في قصص رويت في الكتب الأمهات والمصادر الأصيلة والكتابات الموثقة تنوعاً، فيها من جوانب الحياة الكثيرة في كافة الميادين، للنساء والرجال والأطفال، ولكافة أهل المجتمع، خلال القرون والسنين والأحوال.