مجلة تراث - عدد 79

إنه ليس كميناً

عُرِف أهلُ هذه الحضارة الإسلامية -مما عرفوا به- بالشجاعة المتنوعة، في ميدان نصرة الحق والصبر عليه ونجدة مواقعها، لا سيما في المواجهات الملونة ومنها المعارك الحربية. وهي مرئية وكثيرة شاملة. لكن لا بد من إيراد أمثلة أو حكايات منها في الأندلس، وهي كثيرة بألوانها في كافة الوُجهات والميادين.

 أتوقف هنا عند واحدة، وهي جماعية، وكل أهلها كذلك. وهي ثمرة بناء الفرد والمجتمع المسلم الذي لا شك هو بناء أفراد، بمجموعهم يكونون هذا اللون من المواقف. ألتقط هذه اللقطة من معركة بَلاط الشهداء، التي لا نعرف إلا صورَها، مشوهةً مقلوبةً مُدمَّرة.

وبَلاط الشهداء معركة تمت في قلب فرنسا، جنوب باريس نحو 200 كم، بين مدينتي تور وبواتييه (تور-بواتييه =Toitiers-Tours). وهي معركة شهيرة في التاريخ الإسلامي الأندلسي والأوربي سواء. وقد جرت بين المسلمين بقيادة التابعي الجليل المُقَدَّم عبد الرحمن الغافقي -والي الأندلس- والجيش الفرنجي بقيادة شارل مارتل (قارْلُهْ) Charles Martel. وتعتبر من المعارك الفاصلة في التاريخ الإنساني العام كذلك.

وقد جرت بين هاتين المدينتين -وبهما سُمِّيَت معركة بَلاط الشهداء أو بأحدهما- والمسافة بينهما نحو تسعين كيلومتر، في ميدان متسع تدل عليها المسافة، وكانت في أواخر شعبان –أوائل رمضان 114هـ = تشرين الأول-الثاني، أكتوبر-نوفمبر 732م، مستمرة نحو 10 أيام. وكانت معركة حامية كثيفة عنيفة ومتفاوتة في كل الامكانيات بين الطرفين، المسلمين والفرنج: العُدَّة والعَدد وطبيعة الأرض والتربة وتضاريسها وحالتها، لاسيما وقت الخريف الممطر، ونوع الاسلحة وطريقة النـزال ومكان التزود، والميدان في أرض العدو. وكل هذا وغيره كان لصالح الفرنج الذين جمعهم وانتقاهم واختارهم شارل مارتل من كل أنحاء الامبراطورية الرومانية المقدسة، بجانب أمْداد كثيرة من جوانب أخرى. واعتبرها معركةَ موت لا حياة بعده. وقد سار لها الجيش الاسلامي مسافة- من عاصمته قرطبة- قَرابة 1500 كيلومتر. واستمرت المعركة نحو عشرة أيام، وفي تاسعها أو عاشرها استُشهد والي الأندلس وقائد المعركة وبطلها المقدام الأمير المجاهد عبد الرحمن الغافقي.

وأمام هذه الظروف مجتمعة، فكّر القادة ودرسوا وقرروا الانسحاب من المعركة. ووُضِعَتْ ترتيباتُ ذلك ليلاً، وتمت إجراءاتُه التي أخذت طريقها للتنفيذ في الحال. وعند الفجر، موعد ابتداء المعركة اليومي الاعتيادي المألوف، انتظر الفرنج بروز المسلمين من خيامهم الى الميدان، وطال انتظارهم ولم يروا أحداً. فخافوا التقدم الى المسلمين لِما يعرفون مِن شجاعتهم، وخشيةً أن تكون خِطة لاستدراج الفرنج، الذين بقوا على ذلك وقتاً. ثم أرسلوا مَن ينظر مِن بعيد إلى خيام المسلمين. وتكرر ذلك بِمَهْل وخِيفة وتَوَجُّس، لمعرفتهم أن مثل هؤلاء المسلمين لا يفرون من الميدان، وكانوا يقتربون شيئاً فشيئاً منها، حتى وجدوها خالية. فعرفوا تماماً أنها لم تكن كميناً.

ومع ذلك خافوا اللِّحاق بهم، والمسلمون ما يزالون في بلد الفرنج، حيث المسافة بين مكان المعركة وأولِ حدود الأندلس مئات الكيلومترات. فما صَدَّقوا

انسحاب الجيش الاسلامي حتى تنفسوا بارتواء واستنشقوا الصُعَداء، ليحسَبوا ذلك نصراً، طبلت له الكتابات الأوربية. فأبى الجيش الفرنجي الا القعود ولم يلاحق الجيش الإسلامي أو يتبعه أو يتابعه، لأنهم فهموا تماماً وعلى ثقة ومعرفة أكيدة أنه لا بد أن تكون هذه خِطة عسكرية، وأنهم سَيَكُرّون عائدين إليهم وأن الأمر كمين. ولم يكن في حقيقته كميناً بحال.

 وهكذا فإن شجاعتهم -بعد عون الله والايمان بدعوته والالتزام بتعاليمه- حمتهم من إبادة محتملة، بل قائمة وماثلة. وبذلك تأكد لدى الفرنج أنه ليس كميناً.