مجلة تراث - عدد 77

قصة المُصْحَف الشريف

العِلْمُ لا يَفتح أبوابه أو مغاليقه ولا يمنحك نفسه أو من نفسه إلا أن تعطيه كذلك، تلك طبيعته. وهذا يستفاد من حضارتنا لمن عاشها وخبرها واستبطن كنهها.

وبذلك يمكن ويكمن الإبداع والجِدّة والأصالة. وهو ما يجب السعي له في التعرف والقراءة والدراسة لحضارتنا. حتى لقد يمكن تداعي الشوارد والشواهد لتَنْظِم بها عِقْداً أو ترسم لوحة أو تكتب قصة، تعجبك وتدهشك وتنعشك، حتى لتغدو وكأنها بين يديك تستعرضها وتشاهدها وتستشهد بها. تستشعر وقعها وحيويتها أو تتذوق نكهتها وتحس رائحتها. تنطلق بها متحدثاً كاتباً راوياً وكأنها جزءٌ منك يعيش في حياتك وغدا من طبيعتك. تمتلكها تُلِّون مبانيها وتُكّون كيانها. كل ذلك كان ويكون، بمتابعتها وتَتَبُّع مسارها وثمارها والإحاطة بأخبارها.

اجتمع الكثير من ذلك، بعضها يمكن نظمها ضمن سلسلة طرائف تاريخية وحضارية أو خواطر او لفتات إخباربة. لكن في الحقيقة، كلُّها يسلكها خيط واحد، كان الأساس. مع توفر ذلك في حضارتنا، لابتنائها على منهج الله تعالى الذي أغناها وأورثها عزاً وفخراً، ولكن لضياع الكثير من أمهات المصادر فقد يصعب ذلك في بعض الأمور الواردة التي تشير إلى تتمات لها ذهبت، بادت أو غابت.

وأَسُوق هنا قصة المصحف الشريف: القرآن الكريم. فإليكَ وإليكِ قصةَ نسخة المصحف الشريف هذه وعَلاقتها بالأندلس. إذ كان لأهله إهتمام مُرَكَّز بالقرآن الكريم مثلما بالحديث الشريف، والذي هو دَيْدَن كافة البلدان الإسلامية وشعوبها. والقضيتان شكلتاهما –هذه والتالية- تتعلق بمَلِك قَشْتالَهْ: (Castile, Castilla) أدفون. وتسميه الرواية الأندلسية “الطاغية أَذْفُونْش بن رِمُنْد المعروف بالسُّلَيْطِين”.

         وهكذا كانت قضية المصحف الشريف: وذلك أن والي قرطبة Cordoba وما إليها أواخر أيام الدولة المرابطية، المجاهد أبو زكريا يحيى بن غانية الذي ولاّه أميرها تاشُفين بن علي بن يوسف بن تاشُفين، دافع النصارى الصليبيين الذين استغاث بهم الثائر الخائن الغادر ابنُ حَمدين –بعد هزيمته أمام ابن غانية- لغزو قرطبة التي دافعت باستماتة وشجاعة، لكنه أدخلهم اليها في العاشر من ذي الحجة سنة 540هـ (1145م). وكان أولَ ما استباحوا مسجدها الجامع، فأخذوا مصابيحه ومزقوا مصاحفه.

فيُذكر أنه كان ضمنها نسخة من مصحف الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، الذي على ما يبدو كان قد حصل عليه بعضُ الرحالة العلماء الأندلسيين الذين أعتادوا الذهاب الى المشرق لتلقي العلم، سُنّةَ أهل الأندلس.

ولكن البعض يذكر أن هذا المصحف نُقِل من مسجد قرطبة الجامع إلى مسجد مراكش أوائل أيام قيام الدولة الموحدية. وهذه النسخة من المصحف الشريف، يُذكر أنه هو الذي خَطَّه الخليفة الشهيد عثمان (رضي الله عنه) بيمينه، وفيه نقط من دمه. وكان يُحتفَل بالقراءة فيه كل يوم جمعة في مسجد قرطبة. فهل هذا الذي أخذه النصارى كان نسخة أخرى منه، جرى نسخها مثلها؟

وبعد أن شَمِل التدميرُ كلَّ ما في المسجد، دخلوا المدينة، فأحرقوا الأسواق وخربوا كثيراً من معالم المدينة. ورغم كل هذه الشدة وعنف الهجوم ووحشيته ثبت ابن غانيه واستطاع رد هذه الهجمة ودحر وحوشها وخونتها وحافظ على قرطبة، السيدة الأبية والعزيزة الغنية والعروس الحزين. واليوم وأنت تتجول فيها، تحس بامتلاكها هذه المواصفات وأمثالها، ويقع في نفسك تصور بأنها سيدة غالبة غالية، رغم ذلك وبأعمق إحساس وأقوى وضوح وأعلى تعريف. ذلك ما كان يداخلني دوماً حين أقرأ عنها أو أكتب شيئاً من متعلقاتها، وأكثر حين أزورها. وكانت زيارتي السابقة لها -مع بعض أفراد الأسرة- أواخر ديسمبر 2002م. وقد أحسست معهم بمثل هذه المشاعر التي تملكتنا ونحن نزور مسجدها الجامع La Mizquita Aljama، ونتجول في طرقاتها، ونتدافع نحو مدينتها الزهراء التي تبعد عن المسجد المقهور نحو ثمانية كِيلٍ.

“و أدخل ابنُ حَمَدين النصارى قُرْطُبَةَ في عاشر ذي الحجة من عام أربعين (540هـ) فاستباحوا المسجد وأخذوا ما كان به من المصابيح ومزقوا مصاحفه ومنها زعموا مصحف عثمان وأنزلوا المنار من الصومعة (المئذنة) وكان كله فضة وحُرِقَت الأسواق وأُفسدت المدينة وظهر مِن صَبْر ابن غانية وشدة بأسه وصدق دفاعه ما أَيْأَس منه، وكان من قَدَر الله أن بلغ طاغية الروم يوم دخولهم قرطبة اجتياز الموحدين الى الأندلس فأجال طاغيتهم قِداح الرأي، فاقتضى أن يهادن ابنَ غانية ويتركه بقرطبة في نحر عدوه من الموحدين سداً بينهم وبين بلاده، فعُقدت الشروط ونزل اليه ابن غانية فعاقده واستحضر له أهل قرطبة”.

تلك هي قصة المصحف الشريف: القرآن الكريم، هناك في قرطبة الأندلس.