مجلة تراث - عدد 76
الرسالة النبوية الكريمة
المقصود بالرسالة النبوية الكريمة هي رسالـة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى هِرَقْل (قَيْصَـر الروم) Hercules, Caesar, king of the Romans، يدعوه وقومه فيها الى الإسلام. وهنا يَرِد ما له عَلاقة بها في الأندلس.
وأصل الموضوع في هذه الرسالة -مما هو معلوم- أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) عمل على تبليغ الدعوة الإسلامية لكل أحد وفي كل زمان ومكان “يا أيها الرسول بَلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس” (المائدة، 67).
فما أن عَقَدَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صُلْح الحُـدَيْـبِيَة في ذي حجة السنة السادسة للهجرة (628م)، والإنتهاء من فتح خيبر، آخر قلاع اليهود في الحجاز، في محرم السنة السابعة للهجرة، حتى بدأ في نفس السَنة الدعوة إلى الإسلام خارج الجزيرة العربية.
فوجه رسله الى الملوك والأمراء والحكام في أنحاء الأرض، يدعوهم الى الاسلام. وفي أوائل السنة السابعة للهجرة = صيف 628م، خرج من المدينة المنورة في يوم واحد ستة رسل يحملون كتبه الى العديد من الجهات، منهم: هِرَقْل، قيصر الروم، وكسرى إمبراطور الفرس، والنجاشي ملك الحبشة، والمُقَوْقِس حاكم مصر، وغيرهم.
والمقصود في هذه الحكاية رسالةُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى هِرَقْل قيصر الروم (حكمه: 12 ق.هـ- 20هـ = 610-641م) التي حملها اليه الصحابي الجليل دِحْية بن خليفة الكلبي (45هـ). وكان نصها “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ عبدِ الله ورسولِه الى هرقلَ عظيمِ الروم. سلامُ على مَنْ اتَّبَعَ الهدى. أما بعد: فاني أَدْعوكَ بدِعاية الاسلام، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مرتين، فإن تَوَلَّيْتَ فإنَّ عليكَ إثمُ الأَريسيـين و”يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نَعْبُدَ إلا اللهَ ولا نُشْرِكَ به شيئاً ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تَوَلَّوْا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون” (آل عمران، 64).
وفي القدس استقبل هِرَقْل دحيةَ، رسولَ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، يدعوه فيها إلى الإسلام، عندما جاءها هرقل لشكر الله على انتصاره على الفرس بعد الهزيمة المنكرة المجتاحة الفاقرة التي أشارت اليها سورة الروم.
فأخذ هرقل الكتاب وقُرئ له، وبعد إختبارات ومساءلات واستقصاء أعلن متأكداً جازماً حازماً أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) رسولُ الله حقاً وهو النبي المنتظر الذي بشرت به أنبياؤهم وكتبهم. وكان مما قال: “فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضعَ قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ (أي قادم ظاهر) ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه”. وكان هرقل قد سأل عنه، ثم قال: “لئن كنتَ صَدَقْتني فيما أخبرتني عنه فسيملك ما تحت قدمي هاتين وهذه صفات نبي، أعرف أنه نبي ولكن لا أستطيع ان أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم”. لكن هرقل في الحقيقة آثر المُلْكَ الذي زال بعد ذلك بنحو عقدٍ من السنين، ولو كان آمن لدام له الملك والقوة والعز في الدنيا والآخرة.
وقد روى العديد هذا الكتاب بسنده، وفيه من أهل الأندلس -وبعضهم نساء- أمثال ابن بشكوال وأبو عمر يوسف بن عبد البر وبَقِيّ بن مَخْلِد.
وكان من إهتمام القيصر بهذه الرسالة أن جعلها في قصبة من ذَهَب. وقد تناقلتها أجيالهم محفوظة معزوزة مكرمة يتوارثها ملوكُ الروم. وانتقل الكتاب إلى ملوك الفِرنج في فرنسا ثم الى ملوكهم في اسبانيا النصرانية في شَمالي شبه الجزيرة الأندلسية (الإيـبيرية)، حتى استقر عند ملك قشتالة المذكور. وقد ذكر العديد من الثقات ذلك.
وهنا تأتي مناسبة ذكر هذا الأمر في حكاياتنا الاندلسية. فقد ذكر السهيلي الأندلسي (عبد الرحمن بن عبد الله،581هـ) في كتابه الروض الأُنُـف: أن محمداً بن عبد الملك بن سعيد، 504-589هـ = 1125-1193م (أو أباه) أحدَ أعلام أسرة بني سعيد الأندلسيين حكّام قلعة يَحْصُب، وهم من أهل الفقه والسياسة والعلم والأدب و هم أصحاب كتاب المُغْرِبْ في حُلَى المَغْرِبْ، حين ذهب ابن سعيد هذا لزيارة هذا الملك النصراني أطلعه على الكتاب مكرماً مفتخراً به قائلاً: “فعندي كتاب نبيكم إلى جَدِّي، وأُحضر حُقٌّ من ذهب، فُتح وأُخرج منه كتابٌ من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى قيصر ملك الروم، وهو جده بزعمه، والكتاب بخط علي بن أبي طالب. قال ابن سعيد هذا: قرأته من أوله إلى آخره كما جاء في حديث البخاري”.
ومن المعلوم ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أرسل كتابين الى هرقلَ هذا، حملهما جميعاً الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي، الأول هو المذكور والثاني كان مُرسَلاً من تبوك. وعلى ذلك فأيٍ من الكتابين هو الذي اطَّلَع عليه ابن سعيد، لكن الذي يبدو أنه الأول.
والظاهر أن الكتاب خرج من ملوك الغرب إلى غيرهم، وقيل إنه وُجِدَ أخيراً عند أميرة عربية تمتلك أصل الكتاب، فهل هذا الأصل هو الأول أم الثاني؟