مجلة تراث - عدد 75
الرأيُ حُـرٌّ وقَبُولُه بِـرٌّ
حين ذهب القاضي الأندلسي، قاضي الجماعة بقرطبة، منذر بن سعيد البلوطي (355هـ = 966م) إلى المشرق للحج والعلم وغيره، وحين مروره بمصر جرى له في احد مجالس العلم فيها أمرٌ طريف، قال: أَتَيْتُ، وأبو جعفر ابن النحاس في مجلسه بمصر، يملي في أخبار الشعراء شعر قيس المجنون، حيث يقول:
خليليَّ هل بالشامِ عينٌ حزينةٌ | تُبَكِّي على نجدٍ لعلّي أُعِينُها |
قد اسْلمها الباكونَ إلا حمامةً | مطوقةً باتت وبـات قرينُها |
تجاوبها أخرى على خيزرانةٍ | يكاد يدنيها من الأرض لينُها |
فقلت له: يا أبا جعفر، ماذا، أعزك الله تعالى، باتا يصنعان؟ فقال لي: وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ فقلت له: بانت وبان قرينها، فسكت وما زال يستثقلني بعد ذلك، ثم ندم أبو جعفر لما بلغه عني وعاد الى ما كنت أعرفه منه.
ومن ذلك أيضاً أن يحيى بن حَكَم الغَزَال (250هـ = 864م)، الشاعر الأندلسي والحكيم الدبلوماسي، كان يَدْرس الشعر على الشاعر القاضي عباس بن ناصح الجزيري، قاضي الجزيرة الخضراء، الذي كان يَفِد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها، ومرت عليهم قصيدتُه التي اولها:
لَعَمْرُكَ ما البلوى بعارٍ ولا العَدَمْ إذا المرء لم يَعْدِمْ تُقى الله والكرمْ
حتى انتهى القارئ الى قوله:
تجافَ عن الدنيا فما لمُعَجِّزٍ ولا عاجزٍ إلا الذي خُطَّ بالقلمْ
فقال له الغزال، وكان في الحلقة، وهو إذ ذاك حدثٌ نظّامٌ متأدبٌ ذكي القريحة: أيها الشيخ، وما الذي يصنع مُفَعِّل (معجز) مع فاعل(عاجز)؟ فقال له، كيف تقول؟ فقال: كنت أقول: فليس لعاجزٍ ولا حازمٍ، فقال له عباس: والله يا بني لقد طلبها عمك فما وجدها.
وهنالك مواقف كثيرة متميزة في كل موقع وموقف وحال، مما يوضح أن المجتمع الأندلسي كان بكل فئاته متفاهماً ومتفتحاً، يَقبل الحق ويقف عنده، قابلاً لآراء الآخرين، متسامحاً فيما بينهم، توصلاً إلى الرأي الأرشد والأوجب والأصوب. بل وحتى في أوقات الضعف، وأوقات المشاغل والمشاكل، لم تغب هذه الصور.
ومن طرائف الأمثلة في هذه الأمور، ما جرى من نقاشٍ وتداول وأخذٍ وردٍ حول شراء أرض موقوفة على أحد كنائس النصارى الأندلسيين من أهل الذمة في قرطبة، حيث انتهى الامر الى رأي جامع، توصل اليه مجموعةُ الفقهاء، وأخذ به الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر (392هـ=1002م)، وتم ذلك في جوٍ يدل على ترقٍ فريد وحكمة متبادلة وسعة في النفوس. وكان هو القرار الصائب بعدم جواز شراء هذه الأرض.
هكذا كان المجتمع الاندلسي راعياً لكل من عاش في ظله، رعى حقوقهم، شاملاً بذلك المسلمين وغيرهم.