مجلة تراث - عدد 60
مُجْتابي النِّـمار لا الثِّمار
صفحاتُ حضارتنا متعددة الأوصاف بخيريتها، متعالية الهيئات بصفحاتها، متنوعة الطعوم بنكهتها، تُسقى بماء واحد. ونكهة اليوم هو التواضع للعلم والرضوخ له ولأهله، حتى لو أتى من طالب لأستاذه، وأمثاله. ولذلك فيوم استقامت على الطريقة أتت بكل تلك الثمرات، أُكُلُها طيب وظلها دائم. ولهذا أمثلة كثيرة، وهي حقيقة مُسـتنبَط منها.
وهكذا غدا الذهاب الى المشرق –من قبل أهل الأندلس، نساءً ورجالاً- هدفاً وأملاً وأمنيةً، تهفو اليه قلوبهم وتتسابق مواكبهم وتتدافع مناكبهم. والطريق منها وإليها يموج بالقاصدين، كلهم في شوق شديد جديد أكيد، مهما تنوعت نوازعهم. ومن النادر أن أحداً من علماء الأندلس -بل وعمومهم، ما استطاع ذلك- حَرَمَ نفسَه منه. وهذا رغم بُعْد الأندلس وصعوبة السفر يومها وتكاليفه، وانفصال الأندلس سياسياً عن المشرق البعيد.
يذكر القرطبي في تفسيره عن قاسم بن أصبغ البياني الأندلسي (القرن الثالث-الرابع الهجري)، ونقله المقري، أنه حين ذهب (البَيَّاني) من الأندلس الى المشرق للحج أو العلم أو التجارة، دَرَسَ على العديد وتلقى العلم في مجالس كثيرة وأخذ الفهم من أفواه العلماء في البلدان التي مر بها، كعادة أهل الأندلس الذين يَحِنُون لزيارة المشرق، موطن الوحي، تجارةً وتعلماً وحجاً، وقد يجتمع كلُّها، وغالباً هي كذلك.
وفي عودته الى الأندلس نزل القَيْروان (تونس) وذهب الى مسجدها لأخذ العلم من منابرها. فيقول: لما رَحَلْتُ الى المشرق نزلت القيروان، فأخذت على بَكْر بن حَمّاد حديثَ مُسَدَّد، ثم رحلت الى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت اليه لتمام حديث مسدد. فقرأت عليه يوماً حديثَ النبي (صلى الله عليه وسلم): “أنه قَدِم عليه قوم مِن مُضَرَ مِن مُجْتابي النِّمار”. فقال: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت: إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا! أو نحو هذا. ثم قال لي: قم بنا الى ذلك الشيخ -لشيخ كان في المسجد- فان له بمثل هذا علماً، فقمنا اليه فسألناه عن ذلك، فقال: إنما هو مجتابي النمار، كما قلتُ. وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مُشَقَّقة، جيوبهم أمامهم. والنمار جمع نَمِرة. فقال بكر بن حَمَّاد وأخذ بأنفه: رَغِم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وأنصرف.
ومن مثل هذا التواضع للعلم والاستسلام لوجه الحق فيه والانقياد الى صوابه لدينا الكثير من الأمثلة.