مجلة تراث - عدد 59
وللنفس يَقَظات ووَقَفات
حين تُبنى النفس الإنسانية على الخير الرصين والفطري الأصيل فانها تتيقظ، حتى لو سَدَرَت في مهاوي الضعف، اذ يُصبح الخيرُ لديها أصلاُ تعود اليه كلما شطّت وتقوم كلما عثرت، تُذَكَّر فتتذكر “*وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين*” (الذاريات، 55). وحين يتواصى الناس بهذه المعاني فان الحياة في ترقٍ مستمر.
ومثلما يمر الأفرادُ بأحداث تردهم الى الخير وتستثير فيهم نوازع الصلاح وتوقظهم وتُفَتِّق مكامنَ الفضائل فيهم، فذلك يكون أيضاً مع المجتمع والحياة.
وكم مرةٍ يقترن ذلك بالدعوة اليه والحث عليه وبيان مبانيه، حيث النفوسُ تهفو للاستماع والاستمتاع والاندفاع. وهي في هذه الأحوال ترى الأمور على رونقها وتدركها على حقيقتها وتراها بحجمها، بعيداً عن الإلفة أو الغفلة أو النسيان. يقوم أهل الهمم بالدعوة اليه وبلم الناس عليه ويُبْذَل لأجله. والتاريخ سِجِلُّ الأمثلة المتكررة الممهورة المنظورة أو المطمورة، التي ادخرتها مضامير الحياة الإسلامية خلال الأجيال على مر العصور.
وأروع ضمان للحفاظ على ذلك والارتقاء به حين يلتقي من أجله العلماء والأُمراء، في خيط مُنْتَظَمْ وعِقد مُلْتئِم ومنظر مُنْسَجِمْ. وكان العلماء دوماً يؤدون دورهم كاملاً بأعلى مقدار. لأن العلماء هم القدوة القوية التي تُمْسِك المجتمعَ وتحافظ عليه وترتفع به كلما هبط، وتقيمه كلما هوى، وتزينه كلما كَدَمَتْه المَساقِط.
وهذا كله واضح في الحياة الإسلامية وحضارتها. ولشدة وضوحها غدت ظاهرةً واضحة، تهاديك وتناديك وتبادلك. والعلماء يبرهنون أنهم حصنُ المجتمعات المتين وكهفُه الدافئ الأمين، وهم حماته وقادته، يلتحق بركبهم الأمراء. وفي المحن يكون ذلك أبرز.
وفي الحياة الإسلامية الأندلسية تحسها وتشهدها وتعتمدها، وأَظْهَرُها أيامَ الطوائف، القرن الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي. وهو قرن زادَ الحرجُ فيه والهرج والمرج. لكني أذهب الى أيام أسبق منه جرت حوادثها، وهي أقل بعداً عن الضوء مهما خفت واختفت منه، باي مقدار، ذلك اللألاء.
واستقامت الحياة فيه على هذا المنوال في أيام أبكر، يوم كان الحَكَم (180-206هـ = 796-822م) بن هِشام بن عبد الرحمن الأول (الداخل)، أميراً للأندلس. وهو الذي أنحى عليه العديد من المؤرخين بالوصف الرديء واتهموه، أمثال: ابن حزم الأندلسي (456هـ) وابن حيان القرطبي (469هـ).
وبسبب ذلك قامت عليه مواجَهة (202هـ=808م) في الرَّبَض (الحي=المحلة) الجَنوبي لقرطبة المسمى رَبَض شَقُنْدَه (Secunda) على الضفة الأخرى لنهر الوادي الكبير (Guadalquivir). وكان فيهم الفقيه طالوت بن عبد الجبار المَعافِري، الذي اختفى مدةَ عام في بيت يهودي، ثم خرج من عنده ولجأ الى وزيرٍ للحَكَم ليكون وسيطاً للتفاهم والانتهاء من هذه الحال. ولما انتقل الفقيه الى بيت الوزير وَشَى به عند الحَكَم الذي عَرَف قصة الفقيه. ولكن الوزير الذي ظن أنه أتى بصيد ثمين أوقع نفسه في الفخ، ليَلقـى شر أعمـاله. حيث أن الحَكَـم -لشهامته- عَنّف الوزير وأَنّبَه قائلاً له: إن اليهودي حفظه سنة وأنت المسلم فضحته بعد أن ائتمنك، فلا كنت بعد اليوم في أعواني، وعفا عن الفقيه. وذُكِر أن الأمير الحَكَم نَدِم أشد الندم على ما أوقع في أهل الربض. “ولما دنت وفاته عتب نفسه فيما تقدم منه عتاباً وتاب الى الله متاباً ورجع الى الطريقة المثلى وقال إن الآخرة هي الأَبقى والأَوْلى، فتَـزَيَّـنَ بالتقوى واعتصم بالعروة الوثقى وأقر بذنوبه واعترف، فمات على توبة من ذنوبه وندم على ما اقترف”.