مجلة تراث - عدد 51
عائشة الحرة الأندلسية
الحضارة الإسلامية -ومنها الأندلسية- ثَرّة مدرار، ترى غناها متدفقاً، يعجلك ويدافعك أو يسابقك ويغلبك على نفسه أو نفسك. وهذا يتم عندما تغوص في الأعماق منه، بالعُدّة اللازمة المؤهِّلة، متروياً متبصراً، بدوافع ونية ذاتية، عدتها إيمان بالله تعالى عميق راسخ وإخلاص له سبحانه.
إن استعراض هذه الصِّيَغ وتقديمها مُهِمُّ للإطِّلاع ولإطْلاع الجيل عليها وتفهمه لها، كي يحاكي منطلقاتها ويتبناها ويبني كما بنوا. فالإسلام أنزله الله تعالى لكل الأجيال لينيروا به الحياة ويعمروها على أساس سليم كريم، ويقيموا الحضارة الإنسانية الحقة. لقد شارك في صناعاتها عموم المجتمع الاسلامي –بمقدار الالتزام به- من النساء والرجال، كباراً وصغاراً. ووَجَدَ فيها غيرُ المسلمين الجو الذي يَحْلُمون به، بل ربما لم يكن يخطر لهم على بال. كل ذلك غاب فهمه عن كثير من مُسْلِمة هذا اليوم، فكيف بغيرهم؟
كثيراً ما يدور نقاش حول المرأة وحقوقها وموقعها في الإسلام، مجتمعاً وحضارة. والمسلمون في الغرب اليوم يواجِهون ويوجِّهون أمطاراً من الأسئلة عن المرأة، مما دعاني الى التفكير والاستعداد لوضع مؤلَّف –إن شاء الله- عن “المرأة في الحياة والحضارة الإسلامية”، أرجو الله تعالى أن يوفق له. والحق أن هذا الأمر واضح معلوم لولا الجهل بحقائق الإسلام. وللمناسبة فقد عقد مؤتمر عن المرأة في الإسلام في احدى الدول العربية، وكان بين المتحدثين مستشرقون، أحدهم فرنسي. فلما جاء دوره في الحديث ذكر أن الذي يعلم قليلاً عن الاسلام يعرف مكانة المرأة فيه، مما يُعتبر ألاّ داعي لمثل هذا المؤتمر، لأن خير مكانة للمرأة هو مكانتها في الإسلام. وربما كانت هذه هي ورقته للمشاركة في هذا المؤتمر المخصص للمرأة في الإسلام.
وعلى الرغم من أن المرأة المسلمة تعلم أن مهمتها الأولى والأهم رعايةُ الأُسرة وتربية الأولاد وإعدادهم لبناء الحياة الفاضلة بالاسلام، أَهّلها الله فطرةً وخَلْقاً وطبيعة للقيام بهذا الواجب، وأعدها وبما يتلائم وهذه المهمة، نفسياً وفكرياً وبدنياً، إلا أنه أباح لها القيام بأعمال أُخرى خارج البيت والمشاركة في كافة الميادين، لاسيما العلمية والعملية، بل واصعبها حتى على الرجال الاقوياء، ولها مواقفُ ومواقعُ بناءٍ، من صدق الوفاء والالتزام، وكُتِبتْ في ذلك صفحات خالدة مجيدة ومضيئة، ابتداءً من الصحابيات قدوات الأمة ولهن. كل ذلك كان بنشأتها الإسلامية وتربيتها لأولادها، فكانت محضن الحنان والبناء بالإيمان. وحين تتخلى عن ذلك يتَجَرَّع الناسُ من المشاكل الجسام، مما لا ينفع معه أي علاج ولا المؤتمرات التي تقام لمواجهتها، هنا وهناك.
وهذا يُظهر جلياً على مدار التاريخ الاسلامي وحضارته في كافة البلدان، التي كان منها الأندلس، الذي احتوت حضارتُه صِيَغاً نسوية باهرة، والأمثلة جد كثيرة. فهذه عائشة الحرة الأندلسية واحدة منهن، وهي غير سَمِيَّتها المغربية بنت أحد المجاهدين في مدينة تطوان -في المملكة المغربية اليوم- التي تزوجت حاكم تطوان، حفيد أحد مهاجرة الأندلس، وحكمت المدينة بعد وفاة زوجها. اما سميتها الأندلسية فهي زوجة سلطان الأندلس ابو الحسن علي الغالب بالله، وأم آخر ملوك غَرناطة Granada: محمد الحادي عشر، أبوعبد الله الصغير، ويعرف بالإسبانية بوبديل Boabdil، وبه يُعرف حتى عند الشعب الغرناطي اليوم، وهو الذي وَقَّع معاهدة استسلام وتسليم غرناطة، ثم كان الاستيلاء عليها سنة 897هـ=1492م.
ثم كانت مغادرته الأندلس نهائياً الى المغرب –بعد اقل من سنتين- ليستقر في مدينة فاس المغربية، ويقدم رسالة اعتذار مطولة الى سلطانها. لقد كانت مفاوضات الاستسلام ثم التخلي عنها للملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيل Fernando , Isabel في أكتوبر-نوفمبر 1491م.
رحل هذا الملك الصغير من غَرناطة الحرة الأبية الزكية، وبعد معارك مقفرة مفقرة مدمرة وقف لها أبطالها بقيادة فارسها المُعْلَم موسى بن أبي الغسان الذي رفض الاستسلام.
ها أبو الغسان ثائـرْ * مع فرسان اليميــنْ
هَمُّه محو الجرائــرْ إن يثوروا بعد حيـنْ
هُم يَعُضُّون الأنامــلْ مهدَه هم داخلــونْ
وبينما هذا الملك الصغير خارج منها الى مدينة أَنْدَرَش Andarax جنوب شرق غرناطة من قرى البُشَرّات Alpujarras مع أُسرته وحاشيته وامه عائشة الحرة، وقف وهو على فرسه فوق تل البَذول Padul ينظر إلى غرناطة، الدرة الفريدة المضيعة التي سلمها لقمة سائغة للعدو الصليبي الذي كسّر ودمّر ثم هَجَّر، وقف فقال “الله أكبر” ثم انفجر باكياً متأسفاً على غرناطة الحبيبة الجميلة آخر نظرة دامعة والتي تعرف بـ: زَفْرة (حسرة) الاندلسي الأخيرة، بالإسبانية:
Sp. el Ultimo Suspiro del Moro
و بالانجليزية:Eng. the Last Sigh of the Moor
وهنا قالت له أُمّه متأثرة معيِّرة له مُسكتته: إبكِ مثل النساء مُلْكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال !!!
ابكِ مثل النساء مُلْكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجالِ
فذهبت عبارتها حكمة ثاقبة باقية مأثورة. لعلها هي أيضاً زفرت حزناً أصيلاً ولانه لم تُجْدِ معه تربيتُها وأُمومتها، البريئة من ذلك كله ومنه. وفي ذلك نقول:
أبو عبد الله الصغيرْ * يبكي مِثْلَ الصاغرينْ
كيف أصْبَحتَ الأميرْ وتُمالي الناقميـــنْ
أيَّ فرسانٍ هَزَمْـتَ والخيولَ تركبـــونْ