مجلة تراث - عدد 49
سفارة أندلسية إلى الدنمارك
سفارة هي من غرائب وعجائب ونجائب الدبلوماسية الأندلسية، قادها السياسي والدبلوماسي اللبق وشاعر الأندلس وحكيمها المبدع: يحيى بن حَكَم الغَزَال الجَيّاني(من مدينة جَيَّان Jaen، شرق مدينة قرطبة) ، الذي لقبه بالغزال الأميرُ الأندلسي عبد الرحمن الأوسط (238هـ=852م) لوسامته بقوله: “جاء الغزال بحسنه وجماله”. عُمِّر الغزال نحو مئة عام (154-250هـ=770-864م)، عاصر خلالها خمساً من أمراء الأندلس: الداخل وهشام والحكم والأوسط ومحمد، يمثله قوله:
أدركتُ بالمصرَ ملوكاً أربعهْ وخامساً هذا الذي نحن معهْ
لقد سبق للغزال أن سَفَرَ (تولّى سفارة دبلوماسية) للأمير عبد الرحمن الأوسط إلى القُسطنطينية (تركيا – استانبول اليوم، أو إسلام بول، أي: مدينة الإسلام) بحراً من ساحل الأندلس الشرقي (مُرْسِيَة Murcia) 225هـ=840م ولقاء امبراطورها تَوْفِلِـس Theophilus . وإذا كانت هذه السفارة لا تخلو من غرائب ممتعة فإن سفارتَة إلى الدنمارك Denmark أَشدُّ غرابة وأكثرُ مهابة وأوعبُ نوادراً وإنجذاباً.
كانت سفارتُنا هذه سنة 230هـ=844م الى الدنمارك أيام الفايكنج The Vikings (وهم: النورمان= المجوس الأُرْدُمانيون) خلال حكم ملكهم هوريك Horic (240هـ=854م)المتنصر حديثأَ من الوثينة، إذ أرسل سفارةً إلى الأندلس أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط، تطلب صداقةَ الأندلس بعد هزيمتِهم (النورمان) في هجومهم البحري المفاجئ (229هـ=844م) على شواطئ الأندلس الغربية عند لشبونة Lisbon Lisboa , (عاصمة البرتغال اليوم)، فأجابهم الأمير عبد الرحمن الأوسط بهذه السفارة برئاسة الغزال (230هـ=845م).
أبحرت السفارة الأندلسية برئاسة الغزال- صحبةَ الوفد الدنماركي العائد- من مدينة شِلْب Silves (البرتغالية اليوم)، تمخر عُباب مياه الأطلسي بمحاذاة الساحل الأندلسي الغربي شَمالاً، مجتازة أمواجه العاتية المهلكـة المغرقة وتياراته الهوجاء الضاربـة، لتصل إلى الدنمـارك عَبْر بحر المانـشEnglish Channel (la Manche) ومضيق دوفر Strait of Dover، وبحر الشَّمال North sea، وصولاً إلى الدنمارك.
وجرت للغزال هناك حكايات وطرائف ومواقف يشاد بها، تنبئ عن قوة تربيته الإسلامية، ونوعية بناء المجتمع الإسلامي الملتزم، وعنها ينطلقون في كافة أحوالهم، لا تغلبهم الاعتبارات الدبلوماسية، رسوماً وأعرافاً و أوصافاً.
استغرقت سفارة الغزال الى الدنمارك – ذهاباً و إياباً – عشرين شهراً، كانت مليئة بالغرائب والعجائب والطرائف، كلها تُسَجَّل ضمن المفاخر والأمجاد، سواء في رحلة الذهاب البحرية أو الإياب البرمائية، أو أثناء الإقامة هناك، وما دار من لقاءات ومنازلات ومناظرات وما كان من إعجاب القوم به، بل وتعلق الملكة نود Nud، زوجة الملك هوريك. وكان ” للغزال معهم مجالس مذكورة ومقاوِم مشهورة، في بعضها جادل علماءهم فَبَكَّتهم وفي بعضها ناضل شجعانهم فأثبتهم. ولما سمعتْ امرأة ملك المجوس بذكر الغزال وَجَّهت فيه لتراه” .
توفرت أخبار هذه السفارة المشوقة لدى ابن دِحْية الكلبي الأندلسي (633هـ=1235م) في كتابه “المُطْرِب من أشعار أهل المَغْرِب”، رواية عن صديق الغزال تمّام بن علقمة. وبعد استراحة السفارة في البلاط الدنماركي اتُخذَت الإجراءات للقائها بالملك وأُطلعوا على قواعد وآداب المقابلة Etiquette، وكان منها الانحناء للملك عند الدخول، فأبى الغزال ذلك، مبيناً بإصرار أن الانحناء لا يكون إلا لله تعالى، حتى لو لم تتم المقابلة، فما كان منهم إلا الاستجابة.
وفي يوم اللقاء احتالوا عليه فوضعوا في صدر مجلس الملك مَدْخَلاً مقوساً منخفضاً، حيث لا يسع الداخل إلا الانحناء أمام الملك، ويكونون قد حققوا رغبتهم. لكن السفير المسلم الذكي الألمعي الأبي، أدرك الحيلة حالاً، فما كان منه إلا أنْ “جلس على الأرض وزحف حتى اجتازه، وباطن قدميه إلى وجه الملك ثم قام، وهكذا جلس الى الأرض وقدم رجليه وزحف على إلْيتيه زحفةً، فلما جاز الباب استوى واقفاً والملك قد أعَدّ له وأحفل في السلاح والزينة الكاملة، فما هاله ذلك ولا ذعره” ، وسلم على الملك ومن في مجلسه داعياً ومستشهداً بآية كريمة “كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون” [القصص 88]. فأعظم الملك كلامه وقال “هذا حكيم من حكماء القوم وداهية من دهاتهم” متعجباً من جلوسه الى الارض وتقديم رجله في الدخول، قائلاً “أردنا ان نذله فقابل وجــوهنا بنعليه، ولولا أنه رسول لأنكرنا ذلك عليه” .
و بعد بقاء الغزال في بلاط ملك الدنمارك ما يزيد على السنة، عاد إلى قرطبة الأندلس، لكن عن طريق إسبانيا النصرانية التي دخلها من خليج بسكاي Bay of Biscay إلى مدينة شنت ياقب Santiago de Compostela، و بقي عند ملكهم نحو شهرين، و عن هذا الطريق عاد داخلاً إلى الأندلس، ليصل إلى قرطبة، حاضرة الأندلس العامرة، بعد مرور نحو سنتين أنفقها في هذه الرحلة منذ انفصل عنها ذهاباً و إياباً.
و تتوفر تفاصيل كثيرة شيقة لهذه السفارة تتضمن حديثاً عن الحياة الاجتماعية والدينية لأهل الدنمارك، كما تحتوي وصفاً جغرافياً. وتُسمى الدنمارك عند بعض الجغرافيين المسلمين، كالشريف الإدريسي (560هـ)، صاحب كتاب: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، دانا مَرْشَة .
و لعل هذه السفارة أول ارتياد إسلامي هناك. وهذه واحدة من مضامير ومضامين الحضارة الإسلامية الحافلة بالفتوحات المتنوعة، وفي جانبها الدبلوماسي، أضاءت العالم بالتزام مجتمع الإسلام به